استطاعت الولاياتالمتحدة ان تحشد عسكرياً ما يكفي لشن حرب على عدو لا تتوقع منه أي رد رادع، لكنها لم تستطع ان تبني منطقا متماسكاً لهذه الحرب. وتعرف الاجهزة الاميركية ما يعرفه الكثيرون ان هذا العدو، الذي يسمى خصوصاً صدام حسين او نظامه ولا يسمى العراق، لم يعد يخيف كما كان في 1990، يوم قيل انه يملك "رابع" اكبر جيش في العالم. بالطبع تشكل الاسلحة الكيماوية والبيولوجية خطراً كامناً يتهدد جيران العراق مقدار ما يهدد العراقيين، وقد سبق ان استخدم صدام مثل هذه الاسلحة ضد الايرانيين وأكراد العراق، لكن التحكم بهذا الخطر لا يمكن ان يتم فعلاً بحرب كالتي نشهد التحضير لها، وإنما بنظام رقابة شديد تسمح به القرارات، ليس فقط اثناء التفتيش وإنما في المراحل اللاحقة أيضاً. ولأن المنطق الذي تستند اليه هذه الحرب لا يزال ضعيفاً فإن المخططين لها احتاجوا لدعم التعبئة النفسية التي تكفلت بها بريطانيا بفتح حرب التقارير، سواء ضد روسيا، او ضد دول عربية مصنفة "ارهابية" يقول تقرير كونغرسي انها "تستضيف" اسلحة العراق البيولوجية او الكيماوية او حتى النووية. لكن الاتهامات التي تسوقها "حرب التقارير" اتهامات بالغة الخطورة - اذا صحّت - ولا يمكن ان تكون الادلة عليها اكتملت لتوّها قبل أيام قليلة، لذا يصح التساؤل عن مبررات السكوت عنها قبل الآن. ويأتي في سياق "التعبئة" ايضاً كلام لوزير المشتريات الحربية البريطاني، إذ تحدث عن "تقسيم العراق" كما لو كان يتحدث عن "المشتريات" التي يتولاها، لكن الجميع يعرف انه ربما يفهم في "المشتريات" الا انه لا يعرف معنى حديثه عن "التقسيم". فهذا "التقسيم" يعني جيران العراق بمقدار ما يعني العراقيين، لأنه - بكلمة - مشروع حروب اهلية كما يعني مرحلة عدم استقرار مفتوحة في كل المنطقة. منذ ولدت قرارات مجلس الأمن بشأن معاقبة العراق على غزوه الكويت، وهي اسيرة فكرة واحدة عبّرت عنها الوزيرة مادلين اولبرايت بوضوح عندما قالت ان لا تعاون ولا تعامل مع العراق في وجود هذا النظام. ولم يؤدِ الاعتماد على العقوبات وحدها الى تحقيق هذه "الامنية"، وليس مؤكداً ان العملية العسكرية المرتقبة يمكن ان تحققها. الاخطر من ذلك، ان "منطق الحرب" الاميركي - البريطاني يصور "حفلة الدمار" التي ينويها كأنها تطبيق للقرارات، اي طالما ان العقوبات لم تسقط النظام فلا بأس في تدمير البلد لعله يساهم في اسقاطه. كانت قوات التحالف توقفت في شباط فبراير 1991 عند حدود الهدف المعلن للحرب، أي تحرير الكويت، وجرى تمكين النظام من سحق الانتفاضة الشعبية اذ سمح له باستخدام الطيران. بعدئذ ساد اعتقاد هو ان المفتشين عن الاسلحة يمكن ان يكونوا بديلاً من قوات التحالف في فرض شروط المنتصر على المهزوم. وكان ذلك اعتقاداً خاطئاً. من هنا ان ما يجري اليوم هو محاولة لتنقيح نهاية حرب الخليج الثانية وتصحيحها، لكن الظروف تغيرت. بات واضحاً ان لإسقاط صدام حسين ثمناً باهظاً ومن العبث حمل العراق والعراقيين على دفع هذا الثمن. فالنظام العراقي الذي انهزم وكبّد البلد افدح الخسائر البشرية والاقتصادية ولم يجد ان واجبه يقتضيه الاستقالة والانسحاب، برهن بذلك على انه لن يتردد في تخريب العراق لقاء بقائه في السلطة. الى اي حد يكون مقبولاً ان يعتمد العالم، ممثلاً بالولاياتالمتحدة، المنهجية الصدامية نفسها للتخلص من صدام؟