اهتمت الأوساط السياسية والشعبية في اليمن خلال أيام عيد الفطر المبارك بدعوة الرئيس علي عبدالله صالح، التي كررها في خطابه في مناسبة العيد، جميع القوى السياسية والجماهيرية الى اغلاق ملفات الماضي بكل ما تحتويه من خصومات وصراعات سياسية أفرزتها الأحداث التي شهدتها اليمن منذ ثورة 26 ايلول سبتمبر عام 1962. وتأتي أهمية دعوة علي صالح وهي الأولى من نوعها من كونها شملت ملفات ما قبل الثورة كما خلت من أي استثناء اضافة الى انها اتسمت بمحددات عامة من دون تفاصيل لفحواها. ويعتقد المراقبون فى اليمن ان علي صالح استهدف من اطلاق دعوته اغلاق ملفات الماضي التي كررها أكثر من مرة خلال شهر واحد بالصيغة ذاتها الى قياس رد فعل الأوساط السياسية والشعبية ولمدة قبولها الفكرة تمهيداً لبلورتها في مشروع متكامل يحدد نوعية القضايا التي أفرزتها الأحداث والمتغيرات التي شهدتها اليمن خلال 36 سنة مضت. وتقضي المبادرة باغلاق كل الملفات بكل ما تحتويه من صراعات وخلافات وخصومات غلب عليها الطابع السياسي والتنافس الاجتماعي التقليدي بفعل الأحداث. ويدرك الرئيس أكثر من غيره ان معظم الملفات التي دعا الى اقفالها تتسم بالتعقيد ولا تخلو من الاشكاليات عند فرز محتوياتها مجدداً. ويرى هؤلاء المراقبون ان علي صالح ربما هدف من دعوته مقايضة القوى السياسية والاجتماعية والشعبية نحو التعاون من اجل خوض مستقبل مستقر ومزدهر في مقابل اغلاق ملفات الخصومة المليئة بقضايا الصراعات السياسية والتنافس الاجتماعي والطبقي والمناطقي بما فيها تلك الصراعات التي حملت معها طابعاً دموياً. وذهب عدد من المراقبين في تفسير دعوة الرئيس اليمني الى اعتبارها دعوة موجهة الى الأشخاص الذين عاصروا مراحل الصراعات والأحداث في اليمن كي يتجاوزوا الماضي ويتجهوا الى اخلاء ما علق في النفوس من خصومات وأحقاد وضغائن والاتجاه نحو التسامح. وهذه أقرب الطرق الى اغلاق ملفات الماضي دون حساسية. ولم يستبعد هؤلاء ان يكون الهدف من الدعوة الى اغلاق ملفات الماضي حض القوى السياسية جدياً على البحث في تلك الملفات لتصل الى نتيجة تتمثل في ان تلك الملفات أغلقت لأن الزمن تجاوزها وان محاولة فتحها من جديد لن تجدي، فيكون اغلاقها نهائياً هو الحل الأفضل. ومع تباين ما ذهب اليه المراقبون في تفسيراتهم الا ان التفسير الحقيقي يحتفظ به الرئيس كونه صاحب الدعوة والقادر بحكم مسؤولياته وصلاحياته الدستورية والقانونية على تحقيق ما يرمي اليه من دعوته الى اغلاق ملفات الماضي التي غلب بلا شك عليها الطابع السياسي دون سواه. وفي هذا السياق تواصل الأحزاب السياسية اليمنية بما فيها الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه الرئيس نفسه البحث في هذه الدعوة واعتبرتها قضية سياسية تستوجب الاهتمام كونها جزءاً من تركيبة الأحزاب وقضاياها التي تستند اليها في نشاطها السياسي والفكري من اجل كسب التعاطف الجماهيري في بلد يسوده نظام ديموقراطي تعددي ويعاني تفشي الأمية ويفتقر الى كل مجالات التنمية ويحتاج الى اعادة ترتيب أحواله الاقتصادية واصلاح أوضاعه الأمنية والقضائية الصحية والتعليمية، اذ لا تكفي الديموقراطية وحدها هدفاً وغاية لتحقيق ما هو أهم من الديموقراطية في بلدان تحتاج الى البنى التحتية المتمثلة في تلك الحاجات التي هي بالضرورة أهم وأقوى الضمانات لرسوخ الديموقراطية وازدهارها. وفي هذا السياق تبرز أهمية الدعوة الى اغلاق ملفات الماضي كونها حددت المراحل الزمنية لهذه الملفات بينها ملف ما قبل الثورة اليمنية عام 1962 في الشمال وعام 1963 في الجنوب اذ ساد اعتقاد عام منذ ذلك التاريخ ان ثورة 1962 في الشمال ازالت بصورة نهائية مرحلة ما قبل الثورة بالانتصار الجذري على نظام الامامة الذي حس التخلف والفقر والمرض طيلة عقد من الزمن، وما دامت الثورة انتصرت رغم ما واجهته من صعاب ومخاطر فقد قلبت الأمور تماماً وأصبح زمن ما قبل الثورة برهاناً واقعياً وتاريخياً واجتماعياً على اهميتها في تجاوز ذلك الواقع المؤلم خصوصاً ان الثورة استوعبت في ما بعد عناصر كانت في الجبهة المضادة وتبوأت مراكز حكومية ورسمية رفيعة ولم يعد هناك سوى ملف واحد يتمثل في ذاكرة أبناء اليمن التي ترصد يوماً "انجازات" الثورة مقارنة مع تخلف العهد الامامي. وهذا الملف لا يمكن اغلاقه نظراً الى ان ما بقي من عناصر قليلة من أسرة الامامة موجودة خارج اليمن لا تدخل في حسابات سياسية تجعل منها ملفاً مفتوحاً يوجب اغلاقه. ولعل الرئيس اليمني، وهذا مؤكد، قصد اغلاق ملف النعرات الطائفية والمذهبية والطبقية وحتى المناطقية التي كرسها نظام الأمامة على مدى حكمه البلاد ليسود مكانها الاخاء الوطني والتفاعل الشامل مع قضايا البلد استناداً الى مرتكزات الثورة والمتغيرات التي حدثت في ظلها وأهمها الديموقراطية. الى ذلك فإن المقتضيات الوطنية والسياسية الراهنة لا يمكن ان تعود باليمن الى الخلف. ان الدعوة الى اغلاق ملفات الماضي في اليمن حملت معها جدلاً واسعاً اضافة الى المخاوف والمخاطر التي ينطوي عليها التعاطي مع ملفات الماضي. لكن من غير المستبعد ان يكون الرئيس اليمني أراد من اطلاق هذه الدعوة تجاوز الخصومات التي أفرزتها مراحل الصراع السياسي خلال فترة ما بعد الثورتين في الجنوب والشمال ليكون من السهل اغلاق ملفات الصراع والأزمات السياسية التي ورثتها دولة الوحدة التي شهدت صراعات وأزمات منذ ولادتها منتصف عام 1990 وأدت الى اندلاع الحرب اليمنية صيف العام 1994 وهي أكبر وأسرع حرب شهدها اليمن في تاريخه المعاصر، ويعتبر ملف الحرب من أكبر ملفات الصراع السياسي والدموي الذي يثقل كاهل البلاد حتى اليوم وأخطرها نظراً الى ما خلفته الحرب من مآس فضلاً عن ثمنها الباهظ رغم انها حسمت في النهاية على تقاسم السلطة وتقسيم البلاد وخلقت اجواء جديدة لا تزال متأثرة بمعطياتها ونتائجها حتى اليوم، اذ لا تستقيم أحوال البلد اقتصادياً وتنموياً وأمنياً وتتعزز سياسياً الا بترجمة جدية لدعوة علي صالح الى اغلاق ملف الفساد الذي ورثته الدولة الموحدة وفتح ملف اعادة بناء الدولة بمؤسساتها الحديثة واجبار الأحزاب السياسية على اغلاق ملفات الخصومة من داخلها وفي ما بينها وفتح ملف يتسم بالفاعلية على الساحة الشعبية يتمثل ببرامج وطنية خالية من ضغوط الماضي ومنفتحة على المستقبل. وبات اغلاق هذه الملفات مطلباً شعبياً قبل ان يكون مجرد دعوة سياسية. واذا كان علي صالح أطلق دعوته ولم يستثنِ اغلاق ملف قائمة المطلوبين الپ16 من قادة الحزب الاشتراكي وغيره فإنه يعطي بذلك هؤلاء وفي الدرجة الأولى الحزب الاشتراكي فرصة لمراجعة حساباتهم والتعامل بجدية مع قضاية ملحة على اعتبار ان قائمة الپ16 ظلت لأكثر من عامين مرتبطة بقرار سياسي. وما دامت هذه القضية صارت جنائية تنظر فيها المحاكم لم تعد ملفاً سياسياً يمكن اغلاقه قبل صدور حكم القضاء. وبات ممكناً التعاطي مع هذا الملف سياسياً في المستقبل وهذا يعتمد على خطوات مرتبطة بتنفيذ الدعوة الى اغلاق الملفات التي تبدأ الأحزاب والسلطة معاً في تنفيذها ثم ترتبط عملية الاغلاق بخطوات مطلوب من الحزب الاشتراكي تحقيقها وأولها اعادة توحيد جبهته الداخلية والتعامل مع أحداث الماضي ومتغيراته وتطلعات المستقبل بحرص أكبر على رسوخ الديموقراطية نابع من ايمان راسخ بأنه جزء من الديموقراطية وليس طرفاً مستحقاً للسلطة. واذا ادرك الاشتراكيون حاجة الساحة السياسية اليمنية الملحة لحزب بحجم الاشتراكي فإن تجاوز الصعوبات الراهنة يصبح سهلاً وقد يؤدي الى خطوات اخرى ربما يسهل الوصول اليها وان وجدها الحزب الاشتراكي في وضعه الراهن أمراً مستحيلاً. لقد سارع الحزب الاشتراكي الى تفسير الدعوة الى اغلاق ملفات الماضي من وجهة نظره اذ يطالب الاشتراكيون باغلاق كل الملفات التي يرون ابقاءها مفتوحة في غير مصلحة الحزب والتي يترتب على اغلاقها تحقيق مطالبه من أموال ومقرات ومصالحة وطنية والعودة الى السلطة كحق مكتسب. ويطالبون تالياً اعلان عفو عام يشمل عناصر قائمة الپ16 المتوقع صدور الأحكام في حقهم قبل نهاية أيار مايو المقبل، وهي مطالب يريد الاشتراكي تحقيقها دفعة واحدة أو على دفعات استناداً الى خطاب سياسي يستند الى ماض مجرد من أدنى مسؤولية له في حرب صيف 1994 واعلان الانفصال من منطلق ان المسؤولية تقع على مجهول. وهذا يؤكد حاجته الملحة الى اغلاق ملف الخلافات من داخله واحتواء التيارات التي افرزتها أوضاع الحزب ومسؤولياته السابقة التي لن يتجاوزها قبل ان يفكر قادته بمراجعتها جدياً وتحديد الخطوات اللاحقة. والأمر نفسه ينطبق على بقية احزاب المعارضة التي هي في حاجة أكثر من غيرها الى اغلاق ملفات الصراع بين تيارات الحزب الواحد. فهناك أكثر من حزب للبعث الاشتراكي وأكثر من حزب ناصري وأكثر من تجمع لأحزاب المعارضة تحت مسميات مختلفة كما ان تجارب التجمعات التي أعلنتها أحزاب المعارضة والفشل التي وصلت اليه ماثلة. ويفترض هذا الفشل الانطلاق من مراجعة هذه التجارب لاصلاح الأوضاع الداخلية لكل حزب وهذا هو الأهم. ومن غير المنطقي استثناء الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام الذي تقع عليه المسؤولية الأكبر في ترجمة دعوة علي صالح الى اغلاق ملفات الماضي والبدء بنفسه في مراجعة خصوماته السياسية وتبني مبادرات للحوار مع الآخرين بعيداً عن التفكير بمكامن القوة التي يستند اليها وذلك كي يتعامل بجدية مع اعادة اصلاح أوضاعه الداخلية وتوحيد التيارات المنضوية فيه في اطار من الانتماء الفكري والتنظيمي لا يتأثر بالمصالح السائدة في الوقت الراهن، وكي يصبح المؤتمر الشعبي العام حزباً نموذجياً يدعم الرئيس في تنفيذ توجهاته وطموحاته الوطنية وهي الطموحات المرتبطة بمسؤوليات المؤتمر كحزب ينفرد بالحكم معه أكثرية برلمانية مريحة. ومما لا شك فيه ان حزب التجمع اليمني للاصلاح مطالب هو الآخر بتجاوز واقعه المتذبذب على الساحة السياسية اذ لا يمكن ان يحقق دوراً فاعلاً على هذه الساحة من دون التخلي عن خصوماته السياسية والعقائدية المستندة الى مؤثرات من الماضي والتخلي عن الاعتماد على غيره في تحريك دوره السياسي اذ يحتاج الاصلاح الى اغلاق ملفات الخصومة مع الآخرين اذا أراد ان تنحسر الهوة بينه والأحزاب السياسية التي لا تزال تنظر بعيون الشك الى كل مواقف الاصلاح وتعتبرها موسمية وموقتة ويجري تحريكها من خارجه. ولا يرقى أي عمل أو موقف سياسي للاصلاح كحزب الى مستوى الفاعالية الا اذا عكس قوة قرار الاصلاح حزبياً وترجم ايمانه بالموقع الذي هو موجود فيه سواء في السلطة أو المعارضة. والخلاصة من كل هذه المعطيات ان ملفات الخصومة والخلافات والصراعات والأزمات السياسية في اليمن لن تغلق بدعوة من الرئيس أو عبر قرار سياسي للحكومة لكن الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية هي الآلية الأكثر قدرة على تنفيذ المبادرة شرط ان تبدأ بنفسها. وربما يكون هذا هو التفسير الحقيقي لما ذهب اليه الرئيس علي عبدالله صالح في دعوته الى اغلاق ملفات الماضي من منطلق مسؤولياته كرئيس للدولة يحرص على تقويم أوضاع البلد ويهمه المضي الى مستقبل أفضل متحرر من مؤثرات الماضي السلبية.