القارة التي كانت، في السابق، تشكّل ما عُرف بالاتحاد السوفياتي، اصبحت اليوم دولاً ومقاطعات محددة المعالم، ولكلٍ منها دائرة ثقافية تميّز آدابها، من شعر ورواية ومسرحية الخ... ولها ايضاً شعراؤها وأدباؤها وفنانوها. ومن أوكرانيا ترامت في العالم منذ بداية هذا القرن اصوات شعراء كبار امثال ميكولا باجان، ومكسيم ويلسكي، وباخلو تيتشينا، ترددت فيها اعماق فلسفية وجمالية. وكان لكل صوت حرارته الغنائية، التي كانت تتسع باتساع دائرة وسائل التعبير، لتحيط بالطبيعة والانسان وقد انتظمت مطوّلات وملاحم من مثل: "طريق اشجار الدلب" لباجان، و"خريف روحي" لمالسيكو، و"العرش الاسود" لميشيك وغيرها. وهذه المقدمات الكبيرة جعلت الشعر الاوكراني اليوم، يقدم الدليل على حيوية هائلة تتطور على جميع المستويات، وتتسع دائرة امتداده، طولاً وعرضاً وعمقاً، شاملة أطر لغته وأشكاله، بحيث اصبح يشكل مركباً متعدد المظاهر، فيه من التقليد ما فيه من التجديد، اللذين عندما يشعران بضرورة النمو العفوية يتجددان ويغترفان من الطاقات الفردية التي يقدمها كل شاعر ممن ارتفعت اصواتهم في النصف الثاني من هذا القرن، وما زال الكثيرون منهم يكتب ويبدع امثال روبير تريتياكوف، وديمتري بافليتشكو، ورومان لوبكيفسكي، وإيفان دراتش وسواهم. تميز هؤلاء الشعراء وجيلهم بالعمل الدائب لخلق امكانيات تعبير جديدة، على صعيد الصورة الشعرية وبناها اللغوية، من دون اطراح التراث الشعري الاوكراني المتضمن جذور شجرة الشعر الذي تعهّدها وسقاها شعراء امثال: ليسيا أوكراينيكا، وتاراس شفتشنكو وسواهم، وطعّموها طعوماً تتصل بالمشاعر الانسانية والتراث العالمي. وهنا نماذج من ميكولا باجان واندريه ماليشكو: 1 - ميكولا باجان: عند تماثيل ميكال انجلو فولاذُ المعلّم حَرَثَ الكتلة الجامدة: أورامَ تفْلٍ مُخادعة، هَيَجان صخبٍ رَخاماً مُشْتَعلاً، صَخَب حَجَرٍ أصهب تنهدةَ بركانٍ باهظة، طبقات لُبٍّ جبَّارة. هكذا منذ الأزل، ذرَّاتٍ ومشاريع تُحَوِّمُ، تتفجَّرُ باحثةً عن شكلٍ وقياس تُزبدُ فوقَ الوهدة، تتسَعَّرُ في العقبة نشاذاً شامخاً وانسحاقاً أصَمّ. هكذا كان المعلِّم يحلمُ بالحقيقي ويَسْتشرفُ الضروري يعجنُ الصخرَ الخَرِعَ، والكتلةَ المُنذَهلة لتخرج يداهُ من القيود كانسةً الضوضاء على حُمَم الأعماق البركانية المُتَشابكة، ها هو جنحُ الجبَّار يظهرُ مُنتزِعاً من الصَمْتِ زئيراً مُتمادياً. ظهرهُ العَضِلُ ينتصبُ مُؤكّداً خطوةَ عملاق. قبضةُ المعلِّم في قَلْبِ الكتلةِ الداكنة تقبضُ على الجُموح باليدين الشَرِهتين. صيحةٌ كالحياةِ في الأبَد، تَتَدَّفقُ من سجنٍ رخامي، صيحةٌ وقحة صيحةُ إنسانٍ في النهار عويلُ حَبَالى مثلما يُفَرِّقُ الكائنَ والعدَمَ الأبكم مثل ما يُحطِّمُ الذرَّةَ، وينقلُ العَوالم يعبرُ كل الحدود، يُهاجم يُناضلُ يخلقُ يَسْقُطُ، يصعدُ، يصمتُ، يَلْقَى صَخَبَهُ... في الكتلِ الرخامِ قصَّبَ المُعلّم حدودَ ذلكَ الجبار المُنتصبة شطرَ مَنْفذِ الظُلمات المتنبِّهَةِ، المُتعطِّشَةِ الرهيبةِ المَسْعورة المليئةِ بالثورة، الجديرةِ باسمِ الإنسان. سيِّدُ الحجرِ هذا، ذو الظهرِ الذي يكادُ ينقَصمُ. والجبينِ المتَوَتِّر حتى الإنسحاق إن لم يكن إنساناً، كان الأَولى ان يكون إلهاً عَرَفَ الجوهرَ البَشَريَّ حتى الأعماق خَلَقَ الأَلمَ، النشْوَةَ السامية خَلَقَ ظَمأَ الدماغِ الأعلى، وجوعَ العُنْفِ لرؤية كل شيء لِسَمَاعِ نِداء الألغاز البعيدة. 2 - اندريه ماليشكو: التفَّاحة يا لطيبها في الخريف داخلَ البيتِ رائحةُ التفّاحة. ها هي مُمَدَّدَةٌ مُشْبَعَةٌ بانْعكاساتٍ زرقاء: جرْعاتِ شَمْسٍ كما في العيد حازمةٍ مُمْتَلئةٍ.. اخْشَوشَنَتْ في الريح كأنَّما أزِفَ العيدْ هي ذي عالقةٌ بالغصْنِ المقطوع رنَّانةٌ كالطبْلَةِ قضيمةُ العصير والعَبير ناضجةٌ تحتَ النجوم: أخَوَاتها في مكانٍ ما من الأثير تَزيَّنت بالندى وتساقطت على الأرضِ في صيفٍ كريم فعَطَّرَتِ التُراب. الأرضُ على مَدارها، مثل تفَّاحهْ. أغنية الدلب أُنظرْ: ها أنذا لا يستطيعُ أحدُنا الإفتراقَ عن الآخر. أُريد من جديد ان يَرْتَفع تذكاري على رأسك كالأعلام المحترقة برصاص العواصف. آهٍ يا دَرْبي تحت أشجار الدلبِ الأليفة! إني أقدّمُ لكِ الشجاعة أجيئك بها بيديّ المحروقتين لكن، لديكِ مثلهما ما يكفي إني أُقدم لكِ آلامي عذاباً... أخذاً وعطاءًً لكن، عندكِ منها أكثر مما يجب. خلال الأكواخ المُهدّمهْ الشاحبة تمُرّين.. يا شجرة الدلبِ مُجَلَّلةً الخلودِ، مُشَوَّهةً مُبَّللَةَ تُمزّقينَ الظُلُمات وتُضَمّدين الجراحَ بظهرك المجتاح وتمسحين الدموع عن خدود النساء. آهٍ يا دربي.. تحت أشجار الدلب ترتدين الأسمال في الضباب وتكمنين في حُفَرِ الألغام وتجثمين على المنحدر تُداوين جراحنا بأوراقك العَصّية على الإحتراق بدون ريب: لم تكنْ أرواحنا سوى واحدة يا دربي يا دربي الحبيبة تحت أشجارِ الدلب الأليفه أوكرانيا من جديد على دروب الفراق المريرة أحلمُ بك أيها الحقل الأخضر، أيتها الأقحوانة يا عصفورة الروض خُذي دمي، خذي قلبي المستوحد براحتيك ولكن، لا تعذبيني بأحلام شقاءٍ لم يزل حيّاً. في حَمْأة الأخطار ظَلّي الى الأمام. عبرتُ المسافات الطويلة وأشعةُ شمس المغيب القرمزية تهمسُ لي بصمتٍ قائلة: ماذا تنتظر إذاً.. تأمّلني تأمل بلدك حيث النسور تصيح فوق الهضاب، في السهول المعزوفة وأمامك تنبسط الأرض المفروشة بالرماد الداكن. أبكم، تودّ عنها، ولا تستطيع اليها سبيلا. يا أرضي الفتيّة أناديك من جديد. هلاّ سمعتِ ندائي؟ أناشدكِ، أجيبي... سأتخذ أجنحة الريح. والسماء مكسوَّةٌ بالغيوم وأناديكِ بأغنيةِ تغار منها العنادل وأتقدّم وأجاهد حتى النفَس الأخير لأن غضبي كبير جامحٌ في كل الدروب وسآخذ بقلبي الممزّق الأنوف نصف آلامك وشجونك ولربما لفظتُ أنفاسي عطشاً لكني أعلمُ بأنني سأرى الزهورتتفتّح فيكِ من جديد. ترجمة: ميشال سليمان