يختلف العنوان الذي اختاره زاهي وهبي لكتابه الأخير وهو "في مهب النساء" عن فحوى القصائد التي ضمّها الكتاب. فالإثارة التي يشي بها العنوان لم تعرفها القصائد بل ظلّت غريبة عنها مذ غدت قصائد حبّ وحبّ فقط. اما العنوان الذي بدا قريباً من عناوين نزار قباني، كيلا اقول شعاراته، فظلّ مجرّد عنوان، فلا الشاعر هو "دون جوان" كما تمثلته بعض الروايات ولا هو شهريار بحسب الحكاية التاريخية، اما النساء فهنّ امرأة واحدة ذات اجساد كثيرة كما يعبّر الشاعر قائلاً: "آثامي كثيرة /منهوك من فرط الأجساد التي لكِ". ولا يخفي الشاعر ايضاً انه يبحث عن حبيبته بين النساء كما يقول حرفياً، اي في مهبّ النسوة اللواتي شاء ان يشبّههنّ إما بالعاصفة او بالرياح وسواها. ينتحل الشاعر مواصفات العاشق ليدع صوته يعبّر ملء جوارحه وليقول حبّه في احواله كافة، في رقّته وعنفه، في شهويّته وبراءته، في طفولته ومجونه غير متهيّب لا العواقب ولا البدايات. انه الشاعر العاشق والمتيّم يعيش في "عصر" حبيبته متنعّماً بضوئها الذي يخترق ظلمته، ظلمة حياته: "العتمة نخرتني /قبالة نافذتك المضاءة" يقول معتمداً ثنائية الضوء والظلمة التي غالباً ما تجتذب الشعراء العشّاق اذ يصبح وجه الحبيبة او حضورها او غيابها مصدراً للضوء الذي ينير ليلهم الفاحم. والشاعر العاشق لا يستطيع ان يعبّر عن حبّه إلا عبر ابتداع مأساة شخصية تغرقه وتحاصره، وها هو يعترف ان "آثامه كثيرة" لكنها طبعاً آثام قابلة للغفران لأنها آثام من يحب اولاً وأخيراً، آثام بيضاء كما يقال. وها هو ايضاً يتذكر انه يمضي صوب الثلاثين من عمره وأن الذكريات تطفح فيه وتكسره كما يعبّر. انها مأساته الشخصية يشهرها في وجه الحبيبة ليكسب عطفها وحنانها وليواجه بذينك العطف والحنان حركة الزمن الذي يتجه به الى مرحلة النضج التي يرفضها ويؤْثِر عوضاً عنها مرحلة الطفولة. فالعاشق يتمنى دوماً ألا يكبر بل ان يوقف مجرى الزمن ليظلّ بين يدي حبيبته ذلك الطفل الشقيّ الذي لا يهاب شيئاً. إلا ان الشاعر الذي يمضي صوب الثلاثين لن يتوانى عن اكتشاف نفسه رجلاً ولكن مغناجاً ومزهواً بأنامله وأمنياته الرقيقة. وهنا لا يعبّر الشاعر فقط عن "انثويّته" المضمرة والكامنة في سريرته والتي تكمّل حقيقته الفردية، وإنما عن غيرته من انثوية امرأته وقد دفعه الحب الى تلك الغيرة الشديدة. ولن ينثني عن مجاهرة حبيبته بأنثويته قائلاً لها: "اضاهيك انوثة". انها باختصار انوثة العشّاق بل انوثة الشعراء التي عبّر عنها خير تعبير الشاعر الفرنسي بودلير. فالأنوثة هنا تكمّل الرجولة إن لم تكن وجهها الآخر. بل هي عودة الى الوجدان الأول، الى مرحلة التكوين الأول قبل ان ينفصل الانسان الى ذكر وأنثى. ولا يعلن الشاعر "انثويته" إلا ليعبّر عن مدى انصهاره في حبيبته: "من فرط ما اشتهيكِ /أكاد أصيركِ". فهو من شدة الشوق يتمنى ان يصير الحبيبة، ان يصير الحبيب والحبيبة في لحظة واحدة وحبّ واحد هاذٍ ومجنون ومستعر بناره الحارقة. وحين ينظر الشاعر الى نفسه بعد ان يفيق من غيبوبة الحب يجد نفسه ناقصاً امام الحبيبة "يخجلني نقصاني امامك" يقول ويكتشف كذلك ان "لا ارض له ولا بيت" بعيداً منها فهي الأرض التي ينبت فيها كشجرة وهي البيت الذي لا يغادره إلا ليرجع إليه: "غداً تعرفين /انني كنت شجرة في فناء البيت" يقول. ويسترجع الشاعر صورة الأثم الأول وفكرة التفاحة التي كانت أداة للغواية فيقول لحبيبته: "إياكِ والتفاحة" فهو الذي عرف النعيم يتحاشى ان ينزلق الى الجحيم. فالحبيبة التي "تنفخ فيه الروح" كما يعبّر يريدها ان تظل بمثابة خشبة الانقاذ في وسط حايته المضطربة كالبحر في ايام الشتاء. يكتب زاهي وهبي قصائده ببراءة حيناً، هي براءة العاشق - الطفل المستسلم لهناءة الحب ويلجأ حيناً آخر الى الإباحيّة ليعبّر عن اشواقه المضطرمة ورغباته المتأجّجة في داخله. والحالتان متآخيتان في شعره وتكمّل الواحدة الأخرى ولا تناقضها، فالحبّ واحد سواء في لطافته ام في استعاره، في تحرّقه ام في ألفته. والشاعر الذي يخوض التجربتين معاً يظل هو نفسه في براءته وإثمه، في انغماسه داخل جحيم الجسد وفي تأمله جمال الجسد، في بوحه وفي هذيانه: "كنّا نذوب معاً /نذوب في ليل واحد /في موت واحد" يقول، او: "ولا اعود اعرف أيّكما الماطر /السماء الصافية فوقنا /ام جلدك الذي يئن /تحت راحتيّ". وفي قصيدة أليفة عنوانها "ل.م" يسترجع الشاعر المعجم الواقعي واليومي ليعبّر عن حالة الحب الهادئ والصافي مخاطباً الحبيبة قائلاً: "غداً /نأتي بكنبة وإناء /نترك الزاوية لشجرة العائلة /والشرفة للعصفور /اذا شئنا /نزيح الستائر قليلاً /نلوّح لنهار يغطس في البحر /لشمس ذهبت تستحمّ /نرتّب المساء كما يحلو لنا...". لكن الشاعر يعترف في الحالتين اللتين يخوضهما، بسطوة الحبيبة عليه، سطوتها الرقيقة والعذبة، سطوتها الحسّية والروحية: "كاذبة يدي بلا زغبك الناعم" يقول، او: "نامي واستيقظي /لتتعاقب الفصول والمواسم". يصبح للحبيبة حينذاك قدرة غريبة تستمدّها من ضعف الشاعر العاشق امامها ومن استسلامه الحلميّ والخرافيّ لها ومن انسحاقه امامها: "حين تقبّلني /تعود الخزانة شجرة". إنها في الختام قدرة الحب على خلق معجزاته، تلك المعجزات التي لا يعرفها إلا الشعراء العشّاق. ولئن بدا كتاب زاهي وهبي كتاب حب فهو لم يخلُ من بضع قصائد أليفة أهداها الشاعر الى اهله وإلى بعض الأصدقاء وفيها يستعيد صوته الخفيض والهامس الذي برز في مجموعتيه السابقتين "حطاب الحيرة" و"صادقوا قمراً". ويتوجّه الشاعر الى اصدقائه بألفة تامة معبّراً عن شجونه الجميلة وعن تلك الزوايا الحميمة التي يملأها الاصدقاء في حياته وعن بعض الاحزان والهموم العابرة والأفراح العابرة. وفي هذه القصائد يستسلم الشاعر لإغراءات الألفة والحميميّة ويسقط عن لغته بعدها الإيهاميّ والمتخيّل ليحاور الأصدقاء في حضورهم وغيابهم في الحين عينه. وفي قصيدة "ابناء القرى" يتجلى نفس غنائي يحتفل بالذكرى والغربة، ذكرى ابناء القرى وغربتهم في المدينة: "نحن ايضاً /نزلنا من الأعالي /من رعود الشتاء /وأغاني الحطّابين /حملنا وصايا عشراً وأدعية كثيرة /أضعناها على ابواب المدن /وفي الحانات الرخيصة /ما أحلانا ابناء القرى /نلمع في المقاهي /وتهوانا النساء". ولا يدخل الشاعر في ثنائية القرية والمدينة إلا ليعبّر عن الحال الوجدانية التي تنتابه هو كإنسان قروي او ريفيّ وجد نفسه "غريباً" في المدينة كما يعبّر في قصيدة اخرى. لكن القرية لن تمثّل زمناً مختلفاً عن زمن المدينة ذاك ان الشاعر استطاع ان يحيا الزمنين معاً بل التجربتين معاً عبر نفس غنائي لا يحتفي بالماضي الذي كان فقط ولا يرثي الحاضر القائم مقدار ما يدمج بينهما دمجاً غنائياً شفيفاً. يكتب زاهي وهبي قصائده بسهولة وعفويّة غير متعمّد لا الغموض ولا الافتعال. انه يعبّر ببساطة تامة عما يخالجه من احاسيس وأحوال، من حزن وفرح، من ذكرى وألم، يعبّر كما يحلو له ان يعبّر، جاعلاً من الصنيع الشعري صنيعاً وجدانياً شفافاً وعذباً كماء الينبوع. ومَن يقرأ قصائده يسترجع جواً أليفاً كل الألفة وواضحاً وبعيداً من متاهة الشعر وغموضه. * صدر الكتاب عن دار الجديد، بيروت 1998.