صدر في لندن قبل ايام الجزء الثاني من الترجمة الانكليزية الشاملة لكتاب "السيرة النبوية لابن كثير"، ترجمة الدكتور تريفور لي غاسيك ومراجعة الدكتور منير فريد. ومن المتوقع ان يستكمل الكتاب كله في غضون الاشهر القليلة المقبلة، في الوقت الذي تصور مجموعة اخرى من الكتب المنتقاة من امهات التراث الاسلامي في مشروع "الكتب الكبرى في الحضارة الاسلامية" الصادر عن "دار غارنت" بالاشتراك مع "مركز الاسهام الاسلامي في الحضارة العالمية" ومقره الدوحة. ومشروع "الكتب الكبرى في الحضارة الاسلامية" محاولة لتغطية القرون الثمانية الأولى من الحضارة الاسلامية اي في عصرها الذهبي من خلال ترجمة مجموعة متنوعة من امهات الكتب الاسلامية الى اللغة الانكليزية. وتغطي هذه الكتب حقولاً متنوعة من العطاءات الاسلامية في الفقه والشريعة والفلك والبصريات والجغرافيا والتاريخ والسياسة والأدب وغيرها. وهي ليست موجهة الى الاختصاصيين بالدراسات الاسلامية فقط بل الى القطاع الأوسع من القراء الغربيين المهتمين بمعرفة عمق المساهمة الاسلامية في الحضارة العالمية. وحرصت الهيئة المشرفة على المشروع ان يقوم بالترجمة عالم متخصص على ان تتم مراجعتها من قبل عالم آخر يحمل المميزات العلمية المماثلة. الى جانب "كتاب البخلاء" للجاحظ الذي تناولناه قبل اسابيع، والجزء الثاني من "السيرة النبوية" لابن كثير الذي نعرض له الآن، فقد صدر في هذه السلسلة او هو قيد الانجاز النهائي حالياً كل من: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشيد، ترجمة البروفسور عمران نيازي ومراجعة البروفسور محمد عبداللطيف. "احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم" للمقدسي، ترجمة البروفسور بازيل كولينز ومراجعة البروفسور محمد الطائي. "الارشاد في اصول الاعتقاد" للجويني، ترجمة الدكتورة ماري آن دانر ومراجعة الدكتور صالح الطعمة. "كتاب التيسير في المداواة والتدبير" لابن زهر، ترجمة الدكتور سامي حمارنة ومراجعة الدكتور مستنصر مير. "الاحكام السلطانية" للماوردي، مراجعة الدكتورة وفاء وهبة. "الأموال" لابن سلام، ترجمة البروفسور عمران نيازي ومراجعة الدكتور ابراهيم عويس. "الاتقان في علوم القرآن" للسيوطي، ترجمة الدكتور حامد الجر ومراجعة الدكتور عزالدين ابراهيم. وابن كثير هذا هو اسماعيل بن عمر عماد الدين ابو الفداء القرشي البصروي الشافعي، ولد العام 701ه/ 1301م في دمشق، ودرس فيها الحديث على استاذه الحنبلي ابن تيمية ولقي من الاضطهاد ما لقيه استاذه. توفي في العام 774ه/ 1373م. اهم تصانيفه تاريخه العام "البداية والنهاية" من بدء الخليقة الى عصره، واعتمد في سرد الحوادث حتى العام 738ه/ 1337م على تاريخ البرزالي. كما ترك ابن كثير تفسيراً للقرآن الكريم، وكتباً عدة في الحديث النبوي الشريف. اما المترجم لي غاسيك فهو بروفسور الأدب العربي في جامعة ميشيغان الاميركية، وخصص القسم الاكبر من حياته المهنية لترجمة الكتب العربية الى الانكليزية والتعليق علىها، سواء من الأدب القديم او الادب الحديث. ومن ابرز اعماله: موضوعات اساسية في الفكر العربي المعاصر، البيان الدفاعي لأحمد عرابي، ورؤى نقدية لأعمال نجيب محفوظ. وبالعودة الى "السيرة النبوية" لابن كثير نشير الى ان النص العربي الذي اعتمد عليه لي غاسيك لوضع ترجمته الانكليزية هو الكتاب الذي حرره مصطفى عبدالواحد تحت اسم "السيرة النبوية" علماً بأن ابن كثير لم يترك كتاباً منفصلاً بهذا العنوان. وما حصل ان مصطفى عبدالواحد عمد الى كتاب "البداية والنهاية" التاريخي العام ليأخذ منه الفصول الخاصة بالسيرة النبوية الشريفة وهي فصول ضخمة كما هو متوقع وجعلها كتاباً مستقلاً بعد ان حققها وقارنها بالمرويات السابقة ودقق في مصادرها... فأصبحت مرجعاً اساسياً يعود اليه علماء التاريخ والاسلاميات والاحاديث في تسجيلهم للتاريخ النبوي والاسلامي المبكر. ومن الملفت للنظر في "السيرة النبوية" لابن كثير ان مؤلفها اعتمد على ثلاثة مصادر اولية في صياغة عمله وهي: الحديث النبوي، وروايات السيرة، والقرآن الكريم حسب التسلسل وليس حسب الأهمية. وبذلك كان رائداً في هذا الحقل اذ جرت عادة الكتاب الذين سبقوه اما على ايراد السيرة النبوية كحدث تاريخي او تخريج الاحاديث النبوية كوسيلة شرعية. وهكذا فان ما انتجه ابن كثير يعتبر - في القرن الرابع عشر الميلادي - اكمل صيغة وصلت الينا عن السيرة النبوية الشاملة. وأهمية ترجمة هذا الكتاب الأساسي الى اللغة الانكليزية تكمن في ان السيرة النبوية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة تعرضتا خلال القرن الماضي الى حملة شرسة شنها بعض المستشرقين الذين انطلقوا من خلفيات حاقدة على الاسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. ووصل الأمر بعدد منهم الى التشكيك جملة وتفصيلاً بهذه السيرة وبتلك الاحاديث زاعمين انها من "اختراع" الفقهاء المسلمين ابتداء من القرن الهجري الثاني. ويأمل القيمون على هذا المشروع في ان يجد الباحثون المنصفون وبالتالي القراء الغربيون الموضوعيون في هذا الكتاب ما يرد على بعض اسئلتهم ويدحض شكوك المستشرقين المغرضين وافتراءاتهم. والواقع ان الترجمة تلعب دوراً اساسياً في هذا المجال. فمن المعروف ان ابن كثير كان يكرر الاحاديث كلما وجد اختلافاً في الاسانيد، حتى ولو كان ذلك في اسناد واحد بعيد. وهذا ما يدل على الدقة التي تحراها العلماء المسلمون في تعاملهم مع كل ما يتعلق بالسيرة النبوية الكريمة. ويقول المترجم انه حرص على ابقاء هذه المرويات المكررة ولو مع فروق بسيطة تكاد لا تذكر لأنه يريد ان يعطي القارئ الغربي فكرة عن منهج علماء الحديث والسيرة المسلمين في تأليف كتبهم، وذلك في رد غير مباشر على اولئك المستشرقين الذين يرفضون كتب السيرة والاحاديث عند المسلمين. ومن النقاط الاخرى المميزة في هذه الترجمة ان لي غاسيك وضع شروحات وتعاريف متنوعة للعديد من الاسماء الواردة في نص ابن كثير. والسبب في ذلك ان "السيرة النبوية" كانت - على الارجح - تملى شفاهاً، والقراء والمتلقون يعرفون كل المصادر والشخصيات الواردة فيها. لكن هذا لا ينطبق على القارئ الغربي، وعلى هذا الاساس ضمّن لي غاسيك ترجمته الشروح الوافية ليس للتوضيح فقط، وانما للتأكيد على صدقية او عدم صدقية بعض المصادر التي استند اليها ابن كثير في تأليفه. ومع ان المترجم يعترف - بتواضع - ان الكتاب لا بد وأن يحتوي على الاخطاء التي هي من "صفة البشر"، فان القارئ للنص الانكليزي، وبخلفية القارئ الغربي، سيكتشف حكماً الجهد الكبير الذي بذله في تقديم عمل مهم كالسيرة النبوية للمرة الأولى باللغة الانكليزية وبصيغة كاملة. فاذا كانت كتب السيرة والاحاديث النبوية باللغة العربية متوافرة في السابق للباحثين المستشرقين - وهم اجمالاً غير موضوعيين تجاه الاسلام والمسلمين - فان وجود النص مترجماً وبأمانة الى الانكليزية لا يترك عذراً لأحد من الغربيين الراغبين فعلاً في معرفة الاسلام من مصادره الأساسية. The Life of the Prophet Muhammad: IBN Kathir Translated By: Dr. Trevor Le Gassick Reviewed By: Dr. Muneer Fareed. Garnet Publishing LTD. - London 1998. ISBN: 1 - 873938 - 29 -