تبدو التطورات المتسارعة التي تشهدها الانسانية عشية القرن الحادي والعشرين مفزعة الى ابعد الحدود لما يكتنفها من اتجاه نحو التنميط الحضاري والثقافي. ويتعاظم هذا الفزع لدى عديد من الشعوب ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية، ولدى قطاعات واسعة من نخبها تجاه مضامين اصبحت تتدفق كالطلاسم مثل "الثقافة المعلوماتية" CYBER CULTURE والافتراضية الاخلاقية الاعلامية virtualitژ info ژthique… بشكل حوّل مفهوم العولمة الى بعبع قاد هذه النخمب للانسحاب السلبي الى الموروث الحضاري والتخندق في اكثر المواقع تخلفاً وانكفائية كرد فعل غير عقلاني لا يعكس في جوهره سوى عقدة الهوية ولا ينم الا عن محاولة وهمية للدفاع عن الذات القومية. كما ان ازدحام هذه التطورات وتسارعها اشاعا في المقابل حالة من الانبهار عششت فيها الاوهام وصار من العسير معها على البصيرة امتلاك مسافة نقدية بشكل ساعد في تشكيل مثابة الايديولوجيا الجديدة المستندة على ثلاثة اصعدة متكاملة كالطوق: ثلاثية السوق والتقنية وكذلك الخطاب السياسي النيو - الليبيرالي، وهو الخطاب الذي يسعى الى بلورة تعريف واتجاه جديدين لتاريخ الانسانية. ومما يجعل الامر اكثر استعصاء على الفكر النقدي هو استناده على قدرية تكنولوجية تجعل كل نزعة ارادية سياسية وحقوقية ضرباً من الوهم من حيث ستمكن الابتكارات التكنولوجية من الآن فصاعداً السوق من الاجابة التلقائية على كل الطلبات من غير تدخل اجهزة الدولة او المؤسسة القضائية، وهو التدخل القائم على المصلحة العامة. ومن خلال هذا الرسم تبدو التكنولوجيا متحكمة مباشرة في الحراك الاجتماعي، وتنبع السيرورة الموضوعية في المحك من خلال التحول الشامل الذي ينحو نحو "العولمة". وللاشارة تأتي مشروعات نائب الرئيس الاميركي آل غور وكذلك تقرير بانجمان في اوروبا في ما يخص المجتمع الكوني بحيث صار الحديث عن "القرية الكونية" اكثر من مسلّم به. هذا المفهوم الكوني الشامل للمجتمع الدولي الجديد من خلال الثورة الاتصالية والذي لا يعطي اي اعتبار للسيادة القومية ولا للدولة الوطنية التي تجسد هذه السيادة، ينكشف دوره الكامن في طمس مقولة "الامبريالية" التي طالما لاحقت الغرب في علاقاته مع بقية شعوب العالم. في هذا الاطار يظهر "المجتمع الكوني للاتصالات" وكأنه مرحلة بذاتها لتنظيم احادي القطب، وتظهر الشعوب المهيمن عليها وكأنها ضيعت المعنى الحقيقي للهيمنة اي بوصلة التاريخ. وتأكيداً لذلك وفي السياق نفسه يوضح الجيو - استراتيجي بريجنسكي بأن: "قاعدة القوة الاميركية تتأتى اساساً من خلال هيمنتها على السوق العالمية للاتصالات… وهو ما من شأنه ان يخلق ثقافة جماهيرية تمتلك قوة المماهاة والتقليد السياسي". وهكذا تتمكن "الطرق السيارة للاتصالات" من تحقيق ما حاول عبثاً تحقيقه رجال الدولة وقادة الجيوش عبر التاريخ: "الامبراطورية الكونية". اضافة الى ذلك، فان مفهوم الدولة ومنطق الخدمات الاجتماعية والمرافق العامة لم يعد لهما من دور الا بمثابة الكوابح القديمة المعطلة للحداثة التكنولوجية والحائلة دون ان تبرز هذه الاخيرة فوائدها. كذلك لم يعد التنظيم الاجتماعي يحوم حول المصلحة العامة التي يختزلها منطق الدولة ولكن حول منطق المؤسسة والمبادرة الفردية، اي حول التصادم بين المنطقين، حتى ان مقولة "حرية التعبير" ذاتها تنحو لأخذ ترجمة جديدة وهي حرية التعبير التجاري المقدم بكونه حقاً جديداً من "حقوق الانسان". هكذا ينحو التطور في مجال الاتصالات خارج اي ضبط او تعديل مستنداً في ذلك فقط الى الامكانات التقنية من جهة والشراهة المركنتيلية من جهة اخرى. وهكذا ايضاً تستبعد وتزاح كل الاعتبارات والاستحقاقات المرتبطة بالمصلحة العامة. وفي السياق نفسه فان قواعد المنافسة التي هي اصلاً ومن حيث مفهومها تمكن من تحقيق الظروف الطبيعية للمزاحمة الاقتصادية، تبدو من هنا وصاعداً وكأنها تشكل عرقلة للتطور الاقتصادي للمجموعات الرأسمالية الكبرى من وجهة منعها من اخذ الحجم الكافي حتى تكون في مستوى الرهانات الاقتصادية. في هذه المسألة كتب احد المختصين الاميركيين شاليني - س - فانتوري: "كلما كان هناك اكثر شركاء في منافسة لتقديم خدمات ما، كان هناك اقل حظوظ لتحقيق الارباح اللازمة لتمويل المستجدات التكنولوجية. لذلك فان القوانين المنظمة للمنافسة يجب ان تزاح بطريقة تضمن للمؤسسة التعويضات اللازمة على مستوى السوق". وفي هذا الاطار العام سيخضع مفهوم الديموقراطية ذاته للتعديل. وكتب الخبير نفسه: "يجب العمل بالسرعة الكافية على اعادة رسم دور الدولة الديموقراطية وتمرير ذلك من مجرد ضمانة لتوازن فرص المشاركة الديموقراطية في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية الى حماية الاحتكارات المتعددة الاطراف "الاليغوبول" من القانون". هذا يقودنا الى استحضار مقولة لينين التي توسع في شرحها لاحقاً نيكوس بولنزاس من ان اتجاه الرأس المال نحو الاحتكار يقود حتماً الى اكتساب الدولة لطابع فاشي بالضرورة. لم يبلغ تطور المفاهيم في اوروبا هذه الدرجة. لكن بعض العلامات في هذا الاتجاه بدأت في البروز منذ الآن، من ذلك فان تقرير بانغمان المشهور حول المجتمع العالمي للاتصالات الذي تمت صياغته تحت اشراف المندوب الالماني الذي يحمل اسمه المكلف بالصناعة وليس بالاتصالات في صلب اللجنة الاوروبية المؤلفة كلياً من الرؤساء المديرين العامين للشركات الصناعية الكبرى. هذا التقرير - الوثيقة الفاقد لأية مشروعية ديموقراطية، اصبح المرجع الرئيسي للهيئات الاوروبية والغربية عموماً وهو ما اكدته مداولات الدول السبع الكبار G7 في بروكسيل المخصصة للغرض. لكن يبدو ان هذه النقيصة الديموقراطية ابعد ما تكون على التجاوز نظراً لضخامة التقليد الديموقراطي الكامل في الثقافة او في السلوك السياسي الاوروبي. وضمن هذا الاطار العام المتجه نحو سيادة "نمط ثقافي" وحيد نابع لا من الابداع الانساني ولكن من الشراهة الاحتكارية، تصبح الهوية الثقافية القومية للشعوب ضمن عصر الثورة الاتصالية والمعلوماتية موضوعاً للمسخ والتصفية، ويصبح بالنتيجة قطاع الثقافة موضوعاً للتعامل مثله مثل اي قطاع سلعي بسيط. وهكذا "فما لم تستطع تحقيقه الانظمة الشمولية، هل تتوصل له قوانين المال المتحالفة مع قوة التقنية؟ ستكون عملية مدمرة تلك التي تساعد على تعميم نمط ثقافي واحد، لأن ابداعات الفكر لا يمكن استيعابها كمجرد سلع…". هذه المقولة للرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران لوموند 17 تشرين الاول/ اكتوبر 1993 تلخص بدقة التناقض بين الرهانات الثقافية المضمنة في انشطة الاجهزة السمعية البصرية من جهة ومن جهة اخرى التطور المتسارع في هذه الاجهزة والمهيمن عليه اكثر فأكثر من طرف الظاهرة السلعية - المركنتيلية. لقد تمخضت الاهتزازات الحاصلة في مجال الاتصالات السمع - بصرية في السنوات الاخيرة عن اكتساح الصور الاميركية كل انحاء العالم تجاوز مثلاً في اوروبا 75 في المئة من البرمجة التلفزية واكثر من 90 في المئة في افريقيا في حين ان حجم البرمجة للانتاج البصري غير الاميركي لم يتجاوز 2 في المئة في السوق الاميركية، اضافة لذلك فان المضامين والابداعات الفكرية اضافة للهويات الثقافية للشعوب لم تعد موضوع اعتبار. هذه الوضعية المتسمة بالهيمنة الثقافية ولدت صراعا حاداً ضمن المعسكر الغربي، خصوصاً بين فرنسا واميركا خلال مفاوضات "الغات" التجارية، اذ استطاعت فرنسا ومن ورائها المجموعة الاوروبية فرض ما اصبح يعرف بپ"الاستثناء الثقافي" للحد من تدخل "الغات" في حقل الانتاج الفكري وخصوصاً السمع - بصري. الاكثر اثارة للقلق ان مثل هذه القضايا والمسائل الثقافية ستكون من الآن وصاعداً، وبالتدرج مجالاً للنقاش والحسم ضمن المنظمة العالمية للتجارة كوم وليس ضمن منظمة التربية والثقافة والعلوم اليونيسكو التي مثلت طوال العشرين سنة الاخيرة الفضاء الاساسي للخوض في مسائل المعلومات والثقافة في العالم وتمخض عن ذلك "اعلان اليونيسكو" ما سمي "النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات" المستند الى مبادئ المساواة في تناول مسائل الثقافة، وتشكل المشهد العام للثقافة العالمية على اساس التعددية الثقافية اي الاثراء المتنوع لكل المدارس الفكرية الانسانية ولمختلف الابداعات الحضرية للشعوب من خلال صورة ثقافية انسانية تلخّص "تفتح ألف زهرة". الا ان النظام العالمي الجديد الآخذ في التبلور تتسم ملامحه بالهيمنة والاستعلاء الثقافي وبالنفي الحضاري لعديد من الامم لصالح مركب "ثقافي" تقني - مركنتيلي ليس له من هدف سوى تحويل البشر الى قطيع من المستهلكين. انه الخطر الاكبر في ظل طمسه وعدم تمثله، من حيث نفي الثقافة في حد ذاتها، نفي انسانية الانسان واستيلابه نهائياً اضافة لكونه فعل اغتصاب ثقافي قومي يبشر بپ"نهاية التاريخ" و"انتظام البشرية في اشباه طوابير متشابهة ورتيبة كعربات القطار". على هذا الاساس لم تعد المفاضلة ضمن الواقع الجديد المتسم بعولمة الاتصالات والمعلومات، بين ثقافة وثقافة ولكن بين الثقافة واللاثقافة، بين تقدم البشرية بالثورة التكنولوجية نحو الحضارة او الارتداد من خلال هذه الثورة نحو الانحطاط الحضاري. * نائب في البرلمان التونسي.