بعد تعرفه الى الشرق الأوسط قال نابليون عبارته المعروفة: "الاسماء العظيمة تصنع في الشرق". وهذا القول يتبادر الى الذهن عند معاينة مسيرة حياة رئيس الوزراء الروسي يفغيني بريماكوف. فهو خبير درس شؤون الشرق عموماً والأوسط منه تحديداً، علماً بأن طلاب الدراسات الشرقية كانوا آنذاك يتلقون معلومات وافية ومعارف واسعة. وعلى امتداد فترة طويلة ارتبطت الحياة السياسية لبريماكوف ارتباطاً وثيقاً بمنطقة الشرق الأوسط التي مرت بأزمنة عاصفة. فقد امضى سنوات في القاهرة وبيروت وجال في جميع الدول العربية وفي العديد من البلدان الافريقية كمندوب لصحيفة "برافدا"، وتعرف عملياً على جميع قادة النخب الحاكمة في الشرق الأوسط، ومن بينهم شخصيات فذة مثل الرئيس جمال عبدالناصر. ومنذئذ كان بريماكوف ينفذ مهمات معقدة وحساسة بتكليف من القيادة السوفياتية، وكان من بينها تنقلاته بين بغداد وكردستان لمقابلة الملا مصطفى بارزاني وأبنائه والتي تكللت بتوقيع بيان آذار مارس 1970 المعروف. استطراد: رافقت بريماكوف في احدى زياراته الى كردستان وانحفر في ذاكرتي ان الزعيم الكردي بارزاني طلب في صورة خاصة من القيادة السوفياتية الا تثق بأنور السادات وقال: "انا اجلس في الجبال ولا اقرأ الصحف كلها لكنني اعرف حق المعرفة انه سيخونكم من كل بد". ولم يمض سوى اشهر حتى طالب الرئيس المصري بسحب جميع الخبراء العسكريين السوفيات. وهذا تأكيد على بعد نظر الزعيم الكردي الذي كان عموماً يترك انطباعاً قوياً لدى محدثه. ومنذ ذلك الحين كان رئيس الوزراء الحالي يتميز بتفكيره غير النمطي وسعة افقه وسعيه الى نبذ القوالب الجاهزة التي كانت في زمن الحكم الشيوعي مصيبة فعلية لمن يفكر عند مزاولة السياسة. وكنت انا حينذاك ديبلوماسياً شاباً في وزارة الخارجية، وأذكر انه كانت تصلنا مذكرات تحليلية جريئة يبعث بها مراسل "برافدا" في القاهرة الى القيادة السوفياتية. بديهي انه من غير الصحيح الاعتقاد بأن دفة الحكومة الآن في يد مستشرق فحسب. فبعد عمله كمراسل اخذ بريماكوف يوسع دائرته تدريجياً وابتدأ من منصب نائب مدير لمعهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي ثم صار مديراً له، وبين المرحلتين اشرف على ادارة معهد الاستشراق. وحصل بريماكوف على دكتوراه علوم ثم انتخب عضواً في الاكاديمية وهو اعلى ما يمكن ان يصل اليه المرء في السلم العلمي. وتجدر الاشارة الى ان معهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي الذي تتدفق عليه معلومات غزيرة عن العمليات السياسية والاقتصادية في العالم تحول في عهد بريماكوف الى واحد من المصادر القليلة للتحليل الصادق لتطور الاحداث العالمية. فقد كان هناك آنئذ تساؤل بسيط: ما هو السبب في ان النموذج الاقتصادي السوفياتي، الذي كانت موسكو تعتبره الاكثر عدلاً في العالم، يعرج على رجليه الاثنتين، ولماذا تخسر الاشتراكية، في المعنى الأعم، امام الرأسمالية عبر امثلة ملموسة في شرق المانيا وغربها، في شمال كوريا وجنوبها؟ وإذا كانت المشكلة القومية قد حلت في صورة نهائية، فلماذا تختمر وتعلن عن نفسها الهزات القومية والانفصالية في داخل المجتمع السوفياتي، ولماذا يهرب عدد كبير من المواطنين السوفيات الى الجحيم الرأسمالي مفضلينه على النعيم الاشتراكي ولا يحصل العكس؟ ومن المعهد اياه صدرت تقويمات "غير مريحة" للمغامرة العسكرية السوفياتية في افغانستان. ولا يخامرنّ الشك احداً في ان طرح مثل هذه التقويمات على القيادة في ذلك الظرف كان يعني السير على حد السيف ويتطلب مقداراً كبيراً من الجرأة. وأنا انوه بذلك ليس لمجرد استعراض سيرة حياة بريماكوف، بل لأدلل على انه كان صانع مقتربات جديدة وجريئة لا يجمعها جامع بالآراء الارثوذكسية للكرملين، وذلك في زمن النظام الشيوعي المتعصب الذي كان يقمع الافكار الطرية. ومن الضروري الاشارة الى ذلك الى ان حكومة بريماكوف تعرضت فور تشكيلها لهجوم من اليمين شنته القوى التي لم تعد تسيطر على الدفة. هذا علماً بأن الهجوم جرى من دون التقيد بالقواعد وتعوزه الاخلاق السياسية. وتمثلت احدى نغمات الهجوم في ان للحكومة لوناً وردياً، وزعم انها تكاد تكون بالكامل من اليساريين الذين يمثلون الحزب الشيوعي. وأوضح هنا، اولاً، ان بريماكوف لم يستوزر احداً بناء على الانتماء الحزبي، بل على اساس الكفاءة المهنية ومن المعروف ان دعوات وجهت الى اشخاص ينتمون الى كل الوان الطيف الحزبي - السياسي في روسيا، ولكن البعض خاف من المصاعب وقرر الا يلعب في فريق مهمته انقاذ البلد من الازمة. وبتعبير آخر فإن وجود شيوعيين في الحكومة لا يعني انها اصبحت ائتلافية وان الحزب الشيوعي قادر على ان يؤثر في نهجها وقراراتها. وبالمناسبة فإن قادة هذا الحزب وصفوا وزارة بريماكوف بأنها بورجوازية. ثم ان نقاد الحكومة من اليمين يتصرفون كأنهم نقلوا الى روسيا في التسعينات من كوكب آخر ولم يكونوا معنا، ولم تنتسب غالبيتهم الى الحزب الشيوعي، ولم يدفعوا بدلات الاشتراك فيه. ولتوضيح الصورة نقول ان احد قادة الليبراليين، يغور غايدار، كان احد اكبر المشرفين على مجلة "كومونيست" الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وهذا شاهد للعلم وللتذكار، وإن لم يكن ثمة ما يعيب في ذلك. ان ظاهرة ما بعد الاتحاد السوفياتي تكمن في ان جزءاً من الشيوعيين السابقين ادرك دينامية العصر وتشبعه بروح التغيير، في حين ان جزءاً آخر يتظاهر في الشوارع رافعاً صور ستالين وهو بالمناسبة، امر ما كان مسموحاً به في عهد نيكيتيا خروشوف، وهو شيوعي. وليس سراً ان قيادات الدول التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كانت من اقطاب الحزب الشيوعي، مثل رؤساء مولدوفا وكازاخستان وجورجيا وأذربيجان وأوزبكستان... الخ. وهذه ظاهرة شائعة وليست فردية، وهي تؤكد حقيقة مفادها ان عمليات تجديدية جرت داخل الحزب الشيوعي، وبدا يتكوّن خلالها اشخاص مستعدون لمواكبة الزمن. وبدأت حكومة بريماكوف تتعرض الى اللوم من يوم تشكيلها. والبعض ينسى، او يتناسى، ان بريماكوف لم يوافق على قبول المنصب الا بعد الحاح من الرئيس بوريس يلتسن، وانه قبل تحمل المسؤولية في عزّ الازمة لذا فإن وزارته اشبه بفريق اطفاء. هذا ناهيك بأن انتقادات كثيرة ينبغي ان توجه عملياً الى من قاد الحكومة سابقاً وتراكمت في عهده المشاكل والصعاب. وأنبه الى ان بريماكوف لا يسمح لنفسه بتوجيه سهام النقد الى اسلافه، لاعتباره ذلك امراً لاأخلاقياً. وأذكر انه عندما تولى منصب وزير الخارجية حاول الصحافيون استفزازه ودفعه الى ان يعلن رأيه بسلفه اندريه كوزيريف لكنه لم يفعل بدوافع مبدئية. ومما له دلالته ان التهجم والنقد غير النزيه كان لهما مردود عكسي داخل البلد. فبموجب الاستطلاعات الاخيرة "اقتحم" بريماكوف قائمة ابرز الساسة في روسيا وغدت شعبيته موازية لشعبية غينادي زيوغانوف رغم ان رئيس الوزراء، خلافاً لزعيم الحزب الشيوعي، لا يستند الى تنظيم وجهاز دعائي اضع هنا ملاحظة بالغة الأهمية وهي ان بريماكوف اكد مراراً ان الترشيح للرئاسة ليس وارداً في مخططاته ونياته. ويتعمق لدى سكان روسيا الاحساس بأن بريماكوف الذي لا يصنف ضمن اليسار او اليمين، هو رجل دولة بالمعنى الاسمي للكلمة، وانه لا يحب الدعاية لنفسه وينبذ القوالب الايديولوجية في دفاعه عن مصالح الدولة التي تمر بمرحلة ليست باليسيرة. والموضوع ليس في الاستطلاعات، اذ ان شخصية بريماكوف غدت عاملاً لتعزيز الاستقرار في البلد. ومن المهم ان رئيس الحكومة الجديد يعارض مطالب المعارضة اليسارية بحجب الثقة عن رئيس الدولة، ويكرر دائماً: لا تهزوا القارب. وليس ثمة شك في ان الانتقادات الموجهة الى الحكومة كان لها هدف آخر هو تشويه صورة الوزارة في نظر العالم الخارجي، ومن بينه المؤسسات المالية العالمية. وبين السطور يُقرأ التالي: نحن فقط، الليبراليين والمونيتاريين، نحتكر لأنفسنا ان نحصل على التفهم والموقف الطيب في التعامل مع صندوق النقد الدولي. ولكن السهم طاش هنا ايضاً. فالعالم يتابع بتعاطف متزايد جهود رئيس الحكومة الروسية للخروج من الازمة، وقد تعززت هيبة الدولة في الآونة الاخيرة. وقوبل تعيين بريماكوف بتعاطف واهتمام في العالم العربي، وتلقى رئيس الوزراء من اصدقائه الكثيرين رسالات تهنئة، وأهم من ذلك تمنيات بالنجاح في اصعب مهمة يكلف بها في حياته. وجرى الاعراب عن الثقة بأن بريماكوف سيبذل في موقعه الجديد جهوداً لتعزيز الروابط بين روسيا والعرب. وأنا كمسؤول عن ملف الشرق الأوسط بوسعي التأكيد ان بريماكوف يتعامل بكل حماس واهتمام مع اي خطوة تهدف الى توطيد سمعة روسيا في الشرق الأوسط وتقربها من شعوب المنطقة. وبريماكوف رجل مستعد لمد يد العون للجميع، دولاً ام افراداً. وعندما المّ بي مرض في الصيف الماضي فان بريماكوف رغم مشاغله الكثيرة كان يجد متسعاً لعيادة المريض او الاتصال به تلفونياً والبقاء على صلة مستمرة مع الاطباء. انه انسان مذهل، ولكم كان نابليون على حق. * نائب وزير الخارجية الروسي