في نهاية الاسبوع الماضي، صدق مجلس النواب في الكونغرس الاميركي على بنود الاتهام التي طرحتها اللجنة القضائية النيابية. ومع هذا التصديق، تسير المقاضاة الدستورية التي يتعرض لها الرئيس الاميركي خطوة اخرى الى الأمام، لتكرس الصفة اللازمة التي سوف يقرنها التاريخ بعهد بيل كلينتون. غير ان اجراء المقاضاة الدستورية هذا بحاجة ماسة الى التوضيح. اعتمد واضعو الدستور الاتحادي الاميركي، عند صياغته في القرن الثامن عشر، الاجراء الساري آنذاك في القانون العرفي الانكليزي لمحاسبة المسؤولين السياسيين في السلطتين التنفيذية والقضائية. فكما كان الاتهام في القانون العرفي من اختصاص مجلس العامة، والمحاكمة من صلاحية مجلس الاعيان، اناط الدستور الاميركي بمجلس النواب في الكونغرس الاتهام، وفوّض مجلس الشيوخ مهمة البت في التهمة وتقرير الذنب او البراءة. الا ان تفاصيل هذا الاجراء تبقى عرضة للتأويل، وذلك للابهام في نص الدستور، ولندرة السوابق. ويتبين مدى الابهام في ان الاسم المعتمد في الخطاب السياسي والتداول الشعبي لمجمل هذه المقاضاة الدستورية Impeachment، هو في الواقع المصطلح الدستوري للمرحلة الاتهامية وحسب. اما الشكل التطبيقي لهذه المقاضاة الدستورية في الممارسة الفعلية فيتألف من ست مراحل: 1 تناقش اللجنة القضائية التابعة للمجلس النيابي في الكونغرس امكان المباشرة باستقصاء اتهامي "Impeachment Inquiry" بحق مسؤول ما. وفي حال التوصل الى رأي غالب. 2 تعتمد هذه اللجنة مشروع قرار يمنحها سلطة اجراء هذا الاستقصاء، وتطرحه امام مجلس النواب للمناقشة ثم الاقرار بالأكثرية المطلقة. وعند ابرام مشروع القرار هذا. 3 تباشر اللجنة بالتحقيق، وغالباً ما يتضمن التحقيق جلسات استماع عامة للشهادات والآراء، وصولاً الى تحضير نص اتهامي يتألف من عدد من البنود، يجري التصويت عليه ضمن اللجنة. وفي حال تصديق اكثرية اعضاء اللجنة على هذا النص. 4 يعمد مجلس النواب الى مناقشة بنوده، كل بند على حدة، والتصويت عليها. وفي حال نال اي بند منها اصوات الاكثرية المطلقة من اعضاء مجلس النواب، يعتبر المسؤول المعني متهما "Impeached"، ويحال الاتهام الى مجلس الشيوخ. 5 فتجري المحاكمة في هذا المجلس. وبما ان النظام القضائي الاميركي يفترض صيغة هيئة المحلفين اساساً، فان اعضاء مجلس الشيوخ يضطلعون بدور المحلفين، ويستمعون الى مرافعات كل من وكلاء الادعاء الذين يفوضهم مجلس النواب، ووكلاء الدفاع الذين يختارهم المتهم. ويشرف على هذه الاجراءات، اذا كان المتهم رئيس الجمهورية، رئيس المحكمة الدستورية العليا. 6 وبعد انتهاء المرافعات والاستماع الى شهود الادعاء والدفاع، يدلي اعضاء مجلس الشيوخ بأصواتهم. ولإثبات التهمة، يتوجب ان تتوفر اكثرية الثلثين اي 67 صوتاً. ومن السمات الرئيسية لاجراء المقاضاة الدستورية انه غير قابل للنقض او الاستئناف. ويشار هنا الى الابهام الذي اراد منه واضعو الدستور تجنب تقييد السلطة التشريعية او تكبيلها في تنفيذها لمهماتها في اطار المقاضاة. فالدستور، في صيغته الحالية المادة الثانية، الفصل الرابع، ينص على انه "يجري خلع أي من الرئيس ونائب الرئيس وكل المسؤولين المدنيين في الولاياتالمتحدة من منصبه عند اتهامه وادانته بالخيانة والرشوة وغيرها من الجرائم والجنح الكبرى". فعلى رغم التخصيص الطارئ على مفهوم "الجرائم والجنح الكبرى" عبر توفير مثالين لها الخيانة والرشوة، فان هذا المفهوم يفتقر الى التعريف الواضح المحدد، الجامع المانع. ودفع ذلك العديد من الخبراء الدستوريين الى القول بأن الافعال القابلة للمقاضاة هي الافعال التي يعتبرها الكونغرس قابلة للمقاضاة وحسب، اي من دون قيد او شرط. والخطورة في هذا الموقف تتجلى فعلياً في ما يعاني منه الرئيس كلينتون اليوم. ولم يجر العمل بهذه الاجراءات إلا اقل من ستين مرة في مجمل التاريخ الاميركي. بل كادت المقاضاة الدستورية ان تقتصر من حيث التنفيذ على رقابة ومحاسبة من السلطة التشريعية للسلطة القضائية. اما في السلطة التنفيذية، فلم يتعرض سوى وزير واحد لاثبات التهمة في اطار هذه المقاضاة، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر. الا ان كلينتون ليس اول رئيس اميركي يعاني من خطر الادانة والاقالة نتيجة للمقاضاة الدستورية، اذ ثمة سابقتان تشكل من منهما ارهاصاً لمصابه. ففي عام 1868، تعرض اندرو جونسون، الذي خلف ابراهام لينكولن في رئاسة البلاد بعد مقتل الاخير، للمقاضاة القضائية الأولى لرئيس اميركي. ويكاد المؤرخون اليوم ان يجمعوا ان دوافع محاولة اقالة جونسون لم تكن مبررة دستورياً، بل كانت محاولة اطاحة بخصم سياسي وحسب. ذلك ان جونسون كان اعلن عن عزمه على عدم التقيد بقانون اقره الكونغرس يلزمه الابقاء على المسؤولين الحكوميين في مناصبهم، معتبراً ان هذا القانون غير دستوري لتجاوزه الفصل بين السلطات وهي وجهة النظر التي اقرتها المحكمة الدستورية لاحقا. فعند اقدامه على اقالة احد الوزراء، اصدر مجلس النواب في الكونغرس نصاً اتهامياً طويلاً وأحاله الى مجلس الشيوخ حيث كان ينتظر ان يجري اقراره. الا ان بعض اعضاء هذا المجلس تراجعوا عن موقفهم المؤيد للادانة عند آخر رمق، فنجا جونسون من الاقالة. فالمقاضاة التي تعرض لها جونسون تكشف عن الخطورة التي ينطوي عليها هذا الاجراء من حيث امكان تسخيره كأداة سياسية في حال تفرد طرف سياسي بالسيطرة على السلطة التشريعية. والواقع انه يمكن الاشارة الى اوجه شبه من حيث الشكل العام بين مقاضاة جونسون ومقاضاة كلينتون. ففي الحالتين، يجد الرئيس نفسه في مواجهة سلطة تشريعية يسيطر عليها خصومه، وسط تردي الخطاب السياسي واستباب الحزازات الحزبية، وانقسام عقائدي خطير في التوزيع السياسي في البلاد. الا ان المقاضاة الدستورية التي تلقي ظلالها على وضع كلينتون، فهي من دون شك ما تعرض له الرئيس السابق ريتشارد نيكسون اثر فضيحة ووترغيت عام 1974. فبعد انكشاف امر تسلل انصار نيكسون الى مكاتب خصومه السياسيين، عمدت اللجنة القضائية النيابية الى اجراء استقصاء كشف عن تورط الرئيس في محاولة التستير على الجريمة، وفي اساءة استعمال السلطة عبر دفع الاجهزة الحكومية المختلفة من مكتب التحقيقات الى وكالة الاستخبارات ومصلحة الضرائب الى ارتكاب المخالفات والجرائم الصريحة. وفي حين اعدت اللجنة القضائية نصها الاتهامي، وصوّت اعضاؤها على اعتماده لتقديمه لمجلس النواب، سارع نيكسون الى الاستقالة، فلم تتجاوز العملية المرحلة الثالثة من المراحل المذكورة اعلاه. وعلى النقيض من تجربة مقاضاة جونسون، تؤكد مقاضاة نيكسون فائدة هذا الاجراء في تحقيق التوازن بين اجهزة الحكم لمنع التجاوزات وردعها. اذ ساهم هذا الاجراء في انتقال سلمي للحكم وسط تورط رأسه بالفساد، فحقق بالتالي الغرض المقصود منه في الدستور. وكان ذلك ممكناً في غياب للعصبيات الحزبية، اذ انضم العديد من محازبي نيكسون الجمهوريين الى خصومه الديموقراطيين في المطالبة بتنحيته او اقالته بتهمة الفساد. وتكشف المقارنة بين النصين الاتهاميين لمقاضاة نيكسون ومقاضاة كلينتون عن تفاوت هائل. فإزاء ممارسات الفساد الصريحة التي اقدم عليها نيكسون وتطال صميم الحياة السياسية الاميركية يجتهد النص الاتهامي لمقاضاة كلينتون بتضخيم بعض الممارسات الصبيانية وتضخيمها وتعظيمها لرفعها الى مقام خطورة لا تتحمله، على الأقل من وجهة نظر الغالبية الكبرى من الدستوريين، ورأي اكثرية شعبية ثابتة. يبدو اذن ان خصوم كلينتون الجمهوريين، وهم اصبحوا اسرى لخطابهم السياسي، اقرب الى خصوم اندرو جونسون في عصبيتهم الحزبية منهم الى خصوم نيكسون في سعيهم الى مكافحة الفساد في الحياة السياسية. وعلى رغم محدودية بنود النص الاتهامي، فان مقاضاة كلينتون لتوّها تجاوزت المرحلة الرابعة، اي انها بلغت ما لم تبلغه مقاضاة نيكسون، بل ان كلينتون عرضة للاقالة، والدعوات اليه للتنحي اسوة بنيكسون ما فتئت تصدر عن قادة الجمهوريين. وفي حين لا تشير التوقعات الى ان مجلس الشيوخ سوف يقدم بالفعل على ادانة الرئيس وإقالته، فان اشغال البلاد بهذا الموضوع هو بحد ذاته امر مسيء الى الحياة السياسية والاقتصادية في الولاياتالمتحدة وفيما يتعداها، وليس دليل عافية وتوازن كما يزعم خصوم الرئيس. فالمقاضاة الدستورية، التي اثبتت اهميتها في عهد نيكسون، تعيد اليوم لتأكيد خطورتها والحاجة الى توضيحها. * كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة