والآن... ما العمل؟ كيف يمكن لنا بعد ما حصل لنا الاسبوع الماضي ان نعيد تجسير الدول العربية مع مجتمعاتها؟ وكيف يمكن لنا جعل الانظمة العربية اقدر على التعبير الصادق عن قناعات ومشاعر شعوبها؟ كيف يمكن لنا ان نجعل الكثير من انظمتنا تستقوي بشعوبها بدل ان تستقوي عليها كما هي الحال؟ كيف يمكننا مجتمعين ان نجنب دولنا خطري التبعية وافتعال المجابهات؟ كيف يمكك لنا ان نجعل صناعة القرار متجاوبة وان امكن متطابقة مع حصيلة المخاضات الفكرية في مجتمعاتنا؟ ماذا نستطيع ان نقوم به من اجراءات حتى نخرج من دوامة الحيرة التي نجد انفسنا فيها؟ وماذا يمكن ان نتخذ من خطوات لتأمين حد ادنى من التفاهم والتنسيق حتى تتسنى لنا المساهمة في رسم مستقبل الاجيال العربية الصاعدة؟ وفي نهاية الامر ماذا يمكن ان نستخلص من دروس على اثر العدوان الاميركي - البريطاني على شعب العراق ومؤسساته؟ ان الاجابة عن هذا السؤال بالذات قد تساعدنا في الاجابة عن الاسئلة المتكاثرة التي طرحتها احداث الغارات العسكرية على بغداد والمدن الاخرى في العراق، كونها دفعت العديد من القضيا العالقة والمؤجلة الى واجهة الاهتمامات الاولية لشعوبنا في مختلف اوطانها. ان ما شاهدناه واختبرناه من جراء الضربات الشرسة على العراق اوضح لنا بما لا يرقى اليه الشك ان الامة العربية - كونها متشرذمة - هي أمة مستباحة، بمعنى آخر ان فقدان التضامن ناهيك عن فقدان التنسيق في ما بين دولها يفقد الاقطار العربية كلها المناعة لاستمرارها ونموها، الا ان فقدان التنسيق في المواقف وتباينها المعيب اديا الى ظهور عجزها عن النفاذ الى حقائق التحدي الذي شكلته هذه الضربات العسكرية على العراق وعلى شعبه. فما كان واضحاً هو المسافة القائمة بين سياسات معظم الانظمة ومشاعر الجماهير العربية. هذه الفجوة رسخت الشعور بالكبت فكانت التظاهرات في عواصم ومدن عربية عدة تعبيراً عن استياء من تردد معظم الحكومات العربية، وعن غضبها على الحملات العسكرية الانكلو-اميركية التي استهدفت اذلال الامة العربية بأسرها، مثلما استهدفت الغاء العراق دولة ومجتمعاً كعنصر فاعل ساهم في بناء المستقبل العربي. لم تخفِ الادارة الاميركية - ووصيفتها بريطانيا - نياتها تجاه نظام الحكم بل ايضاً تجاه الشعب العراقي، والا كيف نفسر اصرار المحور الانكلو - اميركي على ابقاء العقوبات مفروضة والتهديد بممارسة الفيتو اذا تقدم احد في مجلس الامن بطلب رفعها. ولنفرض ان الضربات العسكرية كانت ذريعة هذا المحور، لماذا الاصرار على العقوبات؟ الاستنتاج المنطقي هو ان هذا المحور يريد ان يقوم بضربة استباقية على الطاقات البشرية المنتجة والمبدعة التي باستطاعتها ان تعيد الى الحال العربية التوازن الذي فقدته. وهدف الاستباق لصيرورة الطاقات العراقية هو احدى الوسائل التي تمكن الكيان الصهيوني من ان يستبقي لذاته المبادرة في تحديد روزنامة قضايا المنطقة ومصيرها بما يتلاءم مع اصرار اسرائيل على الهيمنة والسيطرة. لعل الحملة المقبلة بين التيارات الاسرائيلية المتنافسة في نيسان ابريل المقبل تبين بشكل واضح كم ان المراهنة على الولاياتالمتحدة كان خطأ جسيماً في حسابات الانظمة التي راهنت على ما سمي ب "مسيرة السلام". لكن الضربات العسكرية الاخيرة على العراق كانت بمثابة رسالة ارادتها الولاياتالمتحدة مفادها انها عندما تريد فهي قادرة على تنفيذ مآربها بدون اي رجوع الى مؤسسات الشرعية الدولية او اي مراعاة لمشاعر الشعوب. وقد اكد هذا التسرع في استخدام القوة واللجوء الى الضربات العسكرية ان تنفيذ اهداف السياسة الاميركية في المنطقة يتطلب هامشاً من حرية التفرد وتهميش مرجعية الشرعية الدولية المتمثلة في مجلس الامن وقراراتها كما في الامانة العامة للامم المتحدة. يتراءى لي ان علينا معالجة دوافع التمحور الاميركي - البريطاني في العملية التي قام بها ضد العراق وشعبه! لقد قيل الكثير في تفسير هذه الظاهرة. كثيرون من المعارضين في الحزب الجمهوري تساءلوا عن توقيت الضربات، وغيرهم اعتبرها تحويل انظار عن ادانة الكونغرس للرئيس كلينتون. ولكن مهما كانت صحة او عدم صحة هذه الاسباب فان السبب الاهم قد يكون في طبيعة الادوار الذي تقوم بها كلا الدولتين دولياً في المنطقة. ماذا نعني بذلك؟ المسلّم به ان الولاياتالمتحدة هي الدولة "العظمى" الوحيدة وبالتالي تدّعي لنفسها حقوق ممارسة الهيمنة والانفراد باتخاذ القرارات وعدم جواز مقاومته او معارضته والا فان القصاص قد يكون مكلفاً. وبما ان بريطانيا العظمى سابقاً كانت على رأس امبراطورية ولا تزال تكوّن جزءاً من الذاكرة الراهنة، صار اندفاع بريطانيا الى مشاركة الولاياتالمتحدة في العدوان على العراق ملبياً للذاكرة على حساب تلبية مقتضيات الشرعية. بالاضافة الى التكامل الذي يميز هذا المحور، هناك طبيعة العلاقة بين الرئيس الاميركي كلينتون ورئيس الوزراء البريطاني بلير. ففي الدولة العظمى رئاسة مرتبكة ورئيس متهم وبالتالي ضعيف، في حين ان في الدولة الاصغر رئيساً متمكناً ويحظى بتأييد. هذه المعادلة - المفارقة تفسر الى حد ما السبب الذي جعل بلير يتصور نفسه الناطق والمنظّر للخيار العسكري في حين ان كلينتون المنهمك يقوم بالقسط الاوفر من تنفيذ الخيار العسكري. وفي الماضي القريب وجدنا كيف ان مارغريت ثاتشر قامت بالدور نفسه عام 1990 كما يفعل بلير الآن. ان هذا المحور يضرب بعرض الحائط كل الحقوق لشعوب المنطقة التي اكدتها قرارات الاممالمتحدة والقوانين الدولية، كما يعمل على اضعاف دور المنظمة الدولية والاكتفاء بجعلها غطاء لسياسات الاملاء ويمضي في ازاحتها كمؤسسة فاعلة ومتمردة. من هذا المنظور يتبين كيف تمكن هذا المحور الانكلو - اميركي من جعل هيئة التفتيش - اونسكوم - مطية للمحور، ينسق مع هذه الهيئة ويجرّئ رئيسها بتلر على تحدي بقية اعضاء مجلس الامن، واعتماد خطاب متعالٍ شرس كأنه يتعمد الاستفزاز لكي يمهد الذرائع التي تؤول الى انفراد المحور بتفسير القرارات الدولية من دون الرجوع الى المؤسسة التي اتخذتها. ادى هذا بالضرورة الى ان تبدأ الدول الدائمة العضوية باتخاذ الاجراءات القانونية والسياسية اللازمة لردع الرغبة عن المحور المتفرد وارجاع اهلية تصديق وتنفيذ القرارات الى مجلس الامن بمجمل اعضائه. كما لا بد ان تشمل المراجعة التي يلجأ مجلس الامن اليها الآن اعادة النظر في تركيبة هيئة التفتيش وخصوصاً رئيسها بتلر، من حيث ضرورة عزله كي يتم لهذه الهيئة ما تفتقده الآن - الموضوعية والامانة. قد يقتضي ذلك ان يعود حق الاشراف على هيئة التفتيش وحارسة مهماتها الى الامين العام كي تتسم تحقيقاتها وتقاريرها بالتزام الحقائق لا ان تكون، كما هي الآن، مطية للاهداف الاميركية - البريطانية ويوفر لها هذا لمحور الحماية من المساءلة والمحاسبة. من هذه الزاوية لا مفر من ان تقوم المجموعة العربية بالتصرف كفريق قوي يعمل على دعم المساعي والمبادرات الهادفة الى الحيلولة دون تفرد اي عضو في مجلس الامن بالقيام باجراءات تنفيذية تلبي رغباته الذاتية واندفاعاته للتسلط. كما على المجموعة العربية ان تقوم بحملة مكثفة لاعادة الهيبة الى دور الامانة العامة للامم المتحدة، كونها الاكفأ والاقدر على ممارسة صلاحياتها بدون انحياز ولا تملق. لكن عودة الحيوية الى الاممالمتحدة من شأنها اذ نجحنا في هذا المسعى ان تضمن اطاراً يتلقف شرعية مطالب العرب وحقوقهم. هذه الحيوية تحد من اندفاع المحور الانكلو - اميركي في سياسات الاملاء والسيطرة والهيمنة والاستئثار بهندسة النظام "العالمي الجديد". لكن مهمة المجموعة العربية في الاممالمتحدة جزء من كل وتستوجب هامشاً من حرية التحرك والتصرف حتى تكون وحدة كلمتها ووحدة مواقفها قادرة على ان تقوم بالتعبئة الضاغطة لتفعيل اجهزة المنظمة الدولية وجعل شرعية قراراتها المجمع عليها سائدة ومطمئنة. هذا هو الجواب الاسهل عن السؤال: ما العمل؟ كما ان هذا الجواب يلبي حاجة فورية كي نعيد الاستقامة الى العلاقات العربية مع الاممالمتحدة. وعلى رغم اهمية مجابهتنا حملة التهميش التي يقوم بها المحور الانكلو - اميركي، علينا ان نكون واضحين في التزامنا تفعيل قرارات الشرعية الدولية. وكان مجمل مكاسبنا في الأممالمتحدة دافعاً لاسرائيل كي تمارس من خلال الولاياتالمتحدة اقناع الاطراف العربية بتجاهل المنظمة الدولية وقراراتها الذي من شأنه ان ينتزع من اسرائيل "تنازلات" لن يوفرها التمسك بالقرارات الدولية. السؤال الاساسي والملح يبقى: ما العمل؟ وكأننا كلما حاولنا الاجابة وجدنا اننا نطرح المزيد من الاسئلة. وكأن بلورة الاجوبة تتطلب التعبير عن اللماذات التي طرحتها الجماهير الغاضبة اثناء الضربات العسكرية على العراق في الاسبوع الماضي. ثم ان خطاب التعالي الذي رافق الحملة العدوانية الاخيرة جاء يمعن في محاولته الاستخفاف بعقولنا، اذ اراد المحور ان يقنع العرب والمسلمين بانه وقّت ضرباته على العراق كي تنتهي قبل حلول شهر رمضان المبارك. كأنه مسموح قتل المسلمين قبل رمضان وان احترام "حساسيات" المسلمين يكمن في هذه اللياقات المسمومة! الآن، وقد توقفت الضربات العسكرية، موقتاً على الاقل، ماذا علينا القيام به فوراً وفي المرحلة الراهنة من اجل درء المزيد من المخاطر ووقف النزيف لمصداقية الاقطار العربية والامة التي تنتمي اليها؟ ماذا يجب القيام به حتى لا نظل بحال التشرذم التي يعمل المتربص بنا على تمزيق عوامل الوحدة بيننا ويباغتنا باعتداءاته المتكررة ويمعن في تكريس الانقسامات بيننا، ويكافئ من يميّعون الثوابت القومية في التزاماتنا. كما ان ممارسة المباغتات تستهدف افقادنا التوازن، وتجذير الفرقة، وتعجيزنا عن اعادة استشعارنا بوحدة المصير، وجعلنا في غربة بعضنا عن بعض، وتمرير فكرة الاحتكام في خلافاتنا الى خارج البيت العربي كونه يجب ان نخاف من بعضنا بعضاً وان لا يخيفنا العدو القابع في صميم ارضنا. اجل هذا التشرذم يفسر الى حدّ كبير ان الغضب الجماهيري على العدوان الانكلو-اميركي كاد في بعض الاحيان ان يؤدي الى جلد الذات، لان القرف من ميوعة بعض المواقف الرسمية اوجد ازمة ضمير عند الناس، فسارعوا الى مدّ غضبهم على ما قام به المحور الانكلو - الاميركي الى ما عجز عنه النظام العربي السائد عن القيام به. من هذا المنظور نجد ان صحوة الجماهير وانتفاضتها الرائعة هي، في حال انتظامها وتحديد وجهة سيرها ومسيرتها، الضمان الذي يمكننا في المدى المتوسط والطويل من الاجابة الواضحة عن السؤال الرئيسي: تجسير الدول العربية مع مجتمعاتها. هذا بدوره يوفر المناخ الملائم كي نجعل من المشاعر الاصلية عناصر مكونة للسياسات، وان نجعل من السياسات تعبيراً مبرمجاً عما يختلج في نفوسنا وتفكيرنا من معاناة وطموحات. وكما ان السياسات التي ترشد المشاعر، كذلك المشاعر ترشد السياسات وتثريها. وبدون هذه العلاقة الجدلية ستبقى السياسة في حال اغتراب عن المشاعر الوطنية والقومية، وبالتالي سنعيش حالاً تستقوي فيها الانظمة على شعوبها بدل ان تستقوي بها. لعل عقد القمة العربية المقترحة يجيب عن بعض الاسئلة الملحة، وقد تباغتنا القمة، في حال انعقادها، بأن تتخذ اجراءات تصحح الخلل في الواقع وتستوعب الدروس المتعددة الاوجه التي افرزتها احداث الاسبوع الماضي. فاذا اتخذت القمة بعض القرارات الفورية المطلوبة فانها تتجاوب مع الحد الادنى من مقومات العودة الى قومية القرار وحصانة الموقف وبالتالي يستعيد الموقف والقرار فعاليته ونجاعته. ان الحد الادنى لايقاف استباحة الامة والاستهانة بشعوبها يقتضي بادئ ذي بدء ان تقرر الدول العربية مواجهة العقوبات المفروضة على العراق واختراقها للتدليل على عدم شرعيتها، فضلاً عن ظلمها الذي تحول سياسة افقار واذلال مرسومة. وعلى القمة ان تقرر ضرورة اللجوء الى فصل آلية التفتيش والمطالبة بأن يمتثل نظام العراق للقرارات الدولية عن آلية المساعدات الانسانية لدرء مخاطر ما تقوم به العقوبات الجائرة من تجويع وحرمان للشعب العراقي. كذلك على الدول العربية ذات العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل ان تعلّق هذه العلاقات، ومن الافضل ان تقطعها. اذ لم يعد مقبولاً ان ندعو الى مكافحة التطبيع وبات ضرورياً انهاء العلاقة حتى تتم للشعب الفسطيني حقوقه وتعود السيادة الى الاراضي اللبنانية والسورية. ان الجماهير الموحدة في تفكيرها ومشاعرها لا تفهم ان تكون في جنوبلبنان مقاومة للاحتلال الاسرائيلي وان تكون في تل ابيب سفارات عربية. ومن شأن القمة العربية ان تعيد ملف القضية الفلسطينية الى الاممالمتحدة، وان تنشّط التعبئة الدولية التي بقيت ملتزمة حق الفلسطينيين في تقرير المصير. على القمة ان تعي انها تعالج تحدي اخراج الامة من الحضيض الذي هي عليه. هذا يعني ان على القمة ان تعتمد الدقة والتفصيل في ما تأخذه من اجراءات. فالمناشدة ومراعاة "الحساسيات" والتملق المتبادل او الشتائم المتبادلة لم تعد مستساغة مطلقاً، فالمشاعر الشعبية لم تعد تتساهل مع التعميم ومع الهروب من الالتزام من واقعيات مزورة ومشبوهة، والقمة اذا انعقدت عليها ان تكون اطاراً، كما قال رئيس دولة الاماراتالمتحدة، "للمصالحة والتسامح". لكن القمة، اذا انعقدت، عليها الى جانب توحيد قراراتها ابلاغها الى المجتمع الدولي كونها قناعات تعبر عن التزامات القمة وعن ارادة شعوبها. ان انعقاد القمة واتخاذها القرارات والاجراءات المحددة المشار اليها يقفل الثغرات في واقع العمل العربي المشترك الحالي، ما يوقف النزيف ويمهد لمشروع نهضوي طالما فوتنا فرصاً كثيرة لإنضاجه وانجازه. اما اذا لم تعقد القمة تكون القمة غير المعقودة اكثر ارتباطاً بحضيص الواقع مما هي مرتبطة بصناعة المستقبل. لذا نرجو ان تعقد القمة وتتخذ قراراتها مجراها في التنفيذ حتى نحول دون المزيد من الاستباحة وان نوفر لصانعي القرار العرب الاحترام لوحدتهم وحقوقهم وطموحاتهم. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن