كنّا في زمن ما نقرأ الشعراء والأدباء العراقيين المنفيين ونتألم لما يقاسون من أحوال خارج العراق الذي غادروه عنوة وفي ظروف مأسوية جداً. كان هؤلاء المنفيون يؤلّفون حالة خاصة في الحركة الأدبية العربية، وكانوا يكتبون أدباً هو في الحين عينه أدب المنفى وأدب الإقامة. وبعض هؤلاء كانوا ولا يزالون في طليعة الحركات الشعرية والروائية التي شهدها العالم العربي المقيم والمنفي. وعرفوا فعلاً كيف يستمرون في ابداعهم من غير أن يتحوّل منفاهم "الموقت" الى ذريعة لاستجداء الشعر واستجداء الموضوعات والقضايا الروائية أو القصصية. وكان لا بدّ للكثيرين منهم أن يلتحقوا في حركات التحرّر العربية ليناضلوا مثلما ناضل سواهم وليخيبوا أيضاً مثلما خاب سواهم ولا سيّما في المرحلة الأخيرة، مرحلة الهزائم الداخلية والمآسي. وظلّ أدب المنفى العراقي يمثل جزءاً مهماً جداً من الأدب العراقي العام، واستطاع بعض روّاده ان يتخطوا رفاقهم المقيمين الذين كان لهم حضورهم المميز. وما لبث المنفى أن جذب عدداً من الأسماء الكبيرة ومنها مَن لم يكن بعيداً عن السلطة في مرحلة ما. فالإقامة في الداخل تحت ظلّ الحكم الواحد والهيمنة السياسية الواحدة أضحت أقسى من المنفى وأشدّ وطأة وظلماً. وراح هكذا يتسع المنفى العراقي ليشمل بعض الذين لم يبق لهم في وطنهم ما يسندون اليه رؤوسهم ولا ما يواسيهم ويثير فيهم الرغبة في الحياة أوّلاً وفي الكتابة أو الإبداع ثانياً. غير أن الخراب الذي دفع هؤلاء الى الخروج من أرض الماضي والذكريات سرعان ما ازداد مجتاحاً حياة المقيمين الذين أصرّ بعضهم على الإقامة ولم يُتح لبعضهم الآخر أن يهاجر. وما لبثت الإقامة في الداخل أن استحالت منفى داخلياً بل جحيماً داخلياً بعدما اشتدت المأساة وحرمت المواطنين من أبسط حقوقهم العاديّة. وبين الحصارين السياسيّ الداخلي والسياسي الخارجي أصبحت الحياة في العراق قاتمة كالموت، كئيبة وقاحلة. وبتنا نقرأ كلّ يوم ما لا يصدّق من أخبار أليمة ومأسوية عن أناس لا يستحقون أبداً مثل هذا القدر. وفيما كنا نقرأ بعض أدب المنفى العراقي بألم بتنا الآن نقرأ بعض أدب "الإقامة" بألم فائق. فالكتابة داخل العراق باتت تشبه الكتابة في المنفى ان لم تكن تفوقها سوداوية ويأساً. بل ان المنفى الداخليّ أشدُّ قتامة وأشدّ هولاً وبؤساً من المنفى الخارجي. فالكتابة في المنفى الخارجيّ هي في معنى ما استعادة لماضٍ كان، لزمن محفور في الذاكرة، لأحلام غابرة. إنّها تعيد بناء عالم على أنقاض عالم قديم لم تبق منه إلا الصور والأطياف. أمّا الكتابة في المنفى الداخلي فليست إلا مواجهة يومية للمأساة، مواجهة سافرة للموت والخوف والإرهاب الذي لا يرحم. وقد يجد منفيّو الخارج بعض الفسحات للتأمّل والحنين وبعض الوقت للاستيحاء والكتابة. أما منفيّو الداخل فهم محكومون باليأس واللاجدوى، يكتبون كي يؤجّلوا موتهم، كي يهدموا بالوهم الجدران التي تحاصرهم من الجهات كلّها. هكذا قرأنا ونقرأ دوماً ما يتاح له أن يصلنا حيناً فآخر من أدب "الداخل"، أدب المنفى الداخليّ، وهو في معظمه أدب خالٍ من الجمالية والمتانة اللتين كثيراً ما وسمتا الأدب العراقيّ الحديث. بل هو أدب مكتوب لحينه، أدب عفويّ ونزق طالع من جحيم الموت والخواء. "إكتب. الكتابة نزهة. الكتابة خلاص"، يقول أحد الكتّاب مخاطباً نفسه أو معزّياً نفسه بما بقي له من رجاء قليل هو رجاء الكتابة في معناها الأليف والعاديّ جداً. تصبح الكتابة وسط الحصار الشامل نزهة فعلاً، نزهة داخل حطام اللغة وحطام المخيّلة وحطام الحياة. ولا غرابة أن يطغى معجم معيّن على معظم ما نقرأ من هذا الأدب: الحقيبة، الباب، النافذة، الظلمة، الجوع، الخراب... وهو معجم يدلّ على فداحة الحياة التي تُعاش كما لو أنّها سلسلة من الهفوات والآلام والمآسي. يخاطب أحد الشعراء وطنه ببساطة كلية قائلاً: "أما زلت وطناً؟" وكأنه يحاول أن ينتقم لنفسه ولوطنه مما حصل ويحصل أمام عينيه. ويعرب شاعر آخر عن خوفه من أن يستيقظ يوماً فلا يجد العالم. ويحلم آخر أن "يغلق نافذة القلب" وأن "يغادر تحت رذاذ الظلام". قد لا يكون ما يصلنا من أدب المنفى الداخليّ من أفضل ما يُكتب الآن في العراق، لكنّه يعبّر خير تعبير عن المأساة التي يكابدها المواطنون هناك. فالأسماء التي نقرأ لها هي في معظمها من الأجيال الجديدة التي تفتحت داخل الحصار... أمّا الأسماء المعروفة فنادراً ما نقرأ لها، وبعضها طبعاً من خيرة الأسماء في العالم العربيّ. وإن بتنا كقراء في حيرة تامّة أمام المنفى الخارجي والمنفى الداخلي فأن المأساة تظلّ واحدة ويظل المنفى واحداً كذلك: داخل الوطن وخارجه، داخل الكتابة وخارجها أيضاً