1 كان عليَّ أن أوضح الأمر بيني وبين نفسي. قبل اللجوء الى أطراف أخرى. ثقافية أو سياسية. أحدّد ما الذي أصبح ممكناً وما لم يعد كذلك. في حياة ثقافية. إنه لأمر مستعجل. رغم أن الأجوبة لا تحضر بالقوة ذاتها التي تكون للأسئلة. والأهم. في العملية الإبداعية هو السؤال في حد ذاته. وأن أوضح الأمر يعني السؤال عن الذي تعودنا على وضوحه ثم ضاع الأثر الذي كنا به نهتدي. طرح السؤال؟ وكيف تبلغ هذا الحد؟ ومن يسمح لك بطرح السؤال؟ هكذا يتحول توضيح الأمر الى وضعية تتجابه فيها المستحيلات. فالزمن الثقافي الذي وُجدنا فيه. أضيق من الإحساس الذي تولّد. على إثر ما طبع الحياة البشرية. دونما نسيان ما ميَّز أوضاعنا أيضاً. وما كان يعنيني أصبح مستقلاً بذاته. لم يفكر في اتفاق أو اختلاف. وإلا كان انتزع القوة التي دفعته الى البروز. حاجةً استثنائية. وأنا أتأمل. حاجة ربما تسمح للذات بالكلام الحر. الذي لا قبل لأحد بكَبْته. لأنه لا ينتظر شيئاً من أي أحد. لا يسعى الى أن يكون رأياً قابلاً للتداول. أو ربما رأياً يتقاسمه أعضاءٌ في نادي الولائم الصغرى. كل تفكير في صنف من هذه الأصناف الخاصة بالانتقال من الذات الى الآخرين هو مجرد تخمين. لم يكن له أي فاعلية في الحث على توضيح الأمر. كما قلت. بيني وبين نفسي. ربما لبضع سنوات. ربما لأكثر من ذلك بقليل. أليس الوقت سريعاً حتى لكأننا لم نعد نعرف بالضبط في أي سنة نحن. أو أحياناً. كما يحدث لي. أكتب أو أذكر سنة مضى عليها عمر بكامله. بأعصاب متوترة نرى الى العالم من حولنا. لكننا نرى اليه بحواسنا وبتفكيرنا. بهذه اللعبة كنت أحاول ضبط ما أريد. وأنا في الحقيقة لم أكن أعرف كيف أضبط ما أريد. تمر أوقات وأنا قلق لسبب أجهله. وما كنت أستخلصه هو أنني على غير وئام مع زمني. ففيما كانت الخطابات تُشهّر بالمتنطعين المنسحبين الداعين الى الهامش. كنت فقدت الإحساس بكل هذه الخطابات. وبدلاً من التورط في قراءة مثل هذا الكلام المزعج كنت أفضل العودة الى كتب مضى عليها قرن أو أكثر. الكتب القديمة هي التي أقرأها بحرية العارفين. حرية أن أتخيل أوضاعاً تبدّلت. طريقة الجلوس للقراءة. هذا يثيرني. على أيِّ ورق طبع الكتاب لأول مرة. كيف كانت الحروف. وعندما تتهيأ لي فرصة الاطلاع على الطبعات القديمة يحدث لي أنني كما لو كنت عثرتُ على كنز. صغير. غير نافع للتبادل. وهو مع ذلك كنز أحتفظ به لنفسي. مثل زيارة متحف. أو السفر الى مناطق لم أكن أتوقع قط أنني سأزورها. 2 توضيح الأمر. إذاً. ولا بأس أن نراجع الوقائع. في عالمنا العربي. لأنه هو ما يهمنا مباشرة. وفوراً. كان ثمة شيء لا أستصيغه. أقصد المقارنة بين ما لا يقبل المقارنة. على غرار المقارنة بين أبي تمام والمتنبي. بين شكسبير وامرىء القيس، في الأدب أو الفن أو المعمار أو حتى العلم. المقارنة لا تصلح بين الكبار. بين الأشياء الجميلة. أو العظيمة. التذكير بما لا أستصيغه. مفيد. الى حد بعيد في المقصود من توضيح. وأنا أعني أمر شخص يجد نفسه متورطاً في الكتابة. ثم في الحياة الثقافية. وفجأة تنهال عليه الصور والرسوم. وفجأة يبدأ الحساب والعقاب. وفجأة لا يعرف أي جريرة اقترف وهو يندفع نحو نشر ما يكتب. أعطانا التفكير الفلسفي ما أصبح مساعداً لنا كي نقرأ الزمن بعين مختلفة. وها نحن الآن لا نرجع من حيْثُ أتينا. بل نتوقف من أجل أن نرى جيداً ما الذي نريد. هل تسمح جلبة الأيام بالعزلة المطلوبة في مثل هذه الحالات؟ ولكن العزلة. قريباً من العالم. هي أقصى ما تقدم عليه وأنتَ غيرُ راض عن نفسك ولا عن زمنك. أو قل إنك لم تكتشف بعد ما الذي جعل منك ذاتاً متوتّرة الى هذا الحد. لو استشرت عالماً نفسياً لربما أجاب بالأجوبة المحصاة في علم النفس. لأنه هو الآخر لم يكن يتبين ما الذي يحدث في الأجساد القلقة. ما دامت لا تدخل ضمن الخانات المعهودة للائحة الأمراض النفسية. نعم التوتر. ولكنه لا يفسر شيئاً. في العزلة نقترب أكثر من العالم الذي يسائلنا، عما سنفعل. وهذا ما أشدِّد عليه كثيراً. فالقناعة السائدة هي أن العزلة مناقضة للاقتراب من العالم. على أن التجربة تضعنا في مستوى من الواقعية التي لا تظهر عندئذ. بدون تجربة. والبرهنة على مفعول العزلة في الاقتراب من العالم ممكنة إن هي كانت مفيدة. لا يسترجع الرأي المتداول طرائق الحياة القديمة. وقد كانت العزلة من أساسياتها. لكن. لمَ الإلحاح على الرأي المتداول؟ هل هناك ما يدفع الى الأمل في نقد ما ينسى به الرأي المتداول ما كنا عليه. مغرباً ومشرقاً؟ العزلة. بالنسبة لي. هي التفكير في الوقائع بحرية. خارج. المعيار. المعيار الديني أو السياسي متكافئان من حيث الحجة والمقصد. رؤيتان في واحدة. متماثلتان. متماهيتان. وأن تسعى نحو حريتك. بهذا المعنى. حصْراً. فذلك ما تتوسل به الى معرفة المسافة المسموحة لك في الحساسية والتعبير عنها. لغة تطرح السؤال عن مصدرها ومصيرها في آن. العزلة حريتك. الأولى. الخام. تلك التي ستظل متوحداً بها. لكنك بمجرد ما تنتقل الى التعبير عنها. حريةٌ في الدفاع عن الحواس. إعصاراً يأخذك الى اللانهاية. تطوقك من الجهات الأربع موانعُ لا حصر لها. في وقت كنت تعتقد أن افتقاد الحرية هو من شأن من لا يؤمنون بالمس بالمعيار. 3 وهذا أول ما ليس لي. حتى الآن. في نهاية قرن. بين أمم قطعت حبل السُّرة مع ما كان حياتها السابقة. في فترة سلفت. قُل قبل خمسين سنة. قُلْ قبل عشرين فقط. ولا تسأل كثيراً. لأن الإعلام العربي يوهمك أنكَ تعرف العالم. وهو يعدُّ الحوادث الواقعة من يوم لآخر. ويضيف الى الإخبار مادة تحليلية. من لدن مختصين أكفاء. فأنت. إذاً. تعرف العالم. وتطّلع على الأطياف التي تهجم كل ليل. على البلاد كي تحلم أكثر. والحرية التي أحدثك عنها لا تبدو مطلوبة جداً. كانت مطالب من قبل. ثم اكتفى الواحدُ بالواحد. وتقلصت الجرأة التي هي رحِمُ المطالبة بالحرية. تقلصت وانكفأ المطالبون على أنفسهم. يتذرعون بالواقعية. أعني بلا أهمية الحرية. وفي عالمنا الجديد وسائل أكثر فتكاً بالحرية. لا تمنع رأياً. ولا صحيفة. ولا كتاباً. انشُرَ الإعلامَ فيهم. أكثر من القنوات التلفزية. أجعل من المعلومات المصورة. المصنوعة في المختبرات النفسية ما يفُكُّ سراحك من خطاب كاد أن يخنقك. فلا أنت تعرفُ كيف تتخلص منه ولا هو يتوقف عن مضايقتك. اجعل من التلفزة لِوَاءَك. واهجُم عليهم في الأصقاع كلها. مما علمتَ وما لم تعلم. حرض عليهم ذئاب المسلسلات اليومية وادخل آمناً على نفسك أيها المانع لما يريب. حُلماً. نقداً. فكرةً. ألماً. عزلةً في المكان المختار كي تخترق الكلمة جدارها. فلا أمْنَ بعد هذا الأمْنِ. ولا سَلاَم. أوضحُ الأمر. في الصباح الباكر. قبل أن تشرق الشمس. ويكون لزاماً عليك أن تكون صاحياً أكثر مما يجب. في نقل المعارف واستدراك ما فات. بعفو الخاطر. تأملات تلمع في عتمة العزلة. شمسُك في مُنتصفِ الليل. تلك التي استدرجت جسدَك اليها، وهو في مكان ما مهموم بقلة التلاؤم مع العالم. ولا تعرف ما الذي يحدث وما مصدره. إنك في مكانك. والجسد الهارب منك يجلس على مقربة منك. مُلقياً بالأذنين والعينين الى بئر هي نِعَمُ المعارف. أشجاراً وفواكه من كل مناخ. ولا تحزَنْ. فالجسد الذي قبضت عليه هو جسدك. أنتَ. وهو رفيقك في عزلة لأجل الحرية في التأمل. هل هذا هو ما يستدعي التفكير. بهذه الحدة؟ تخاطب نفسك اليوم في عزلة لا تفارقها. تخاطب ولا تنسى ان ما كنت أقدمتَ عليه سابقاً تم في شرائط ليست هي التي أصبحت متحكمة. ولا تُعدِّدِ الأسباب. فأنت ستنهزمُ. قبل عشرين سنةً. هل يمكنك أن تسترجع شرائط تلك الأيام؟ لم يمر زمنٌ. بل تبدلت أوضاع بكاملها. في الأنظمة والأفكار والحركات والأفعال. ما أنت فيه اليوم ليس أقل عنفاً مما كان. ولكنه يأخذ صيغة مرنة. لا تُرى جيّداً. في أفق يزداد ليله هلاكاً. لكَ. ولغيركَ. في أرض عربية لم تسمح بعد بما يُحررها من قلة الجرأة على مواجهة العالم كما هو. فكرة منقلبة. مدوية. بعيدة الغور. فلا هي مستك ولا أنت سعيت اليها. 4 ليكن أمرُك واضحاً. بين الحرية وسيادة إعلام استهلاكي. ينتفي الفعلُ الثقافي. فعلاً محرراً للطاقات اللانهائية التي تسكن كل واحد منا. ذلك شأن أن تتأمل. مجرداً من صراخ ومن بكاء. الليل برماده يلعو عليك وأنت تحفر. بحثاً عن تعيين ما ليس لك. في زمن. وبين أبناء أمة ولدتك وربتك وسرقت منك حريتك. فلا يأس بعد ذلك ولا رجَاء. إنك الآن تعلم. ما ليس لي. تردد في نفسك. واللغة التي بقيت بين يديك شيءٌ تآلف بين أشياء الحياة اليومية التي تشجِّع أكثر فأكثر على هجران ما تلقنته أو فكرتَ ذات يوم فيه. لم تكن تسعى الى أبعد مما كنت تعتقد أنه ضرورة عادية. لا تثير جدلاً. بينك وبين نفسك أو بينك وبين أهلك. في البلاد الشاسعة. حيث كل واحد أصبح مهموماً بقوته اليومي. بالعمل. ولا تأسف على ما فات. فأنت لم تُضيِّع حريةً. ما دمت لم تحصل عليها. قلت في لهفتك إنني أريد أن أكون مثل الآخرين. سوايَ في العالم. ولم تبلُغ ما حلمت به وترجيتَ. اخترت هامشاً. هو العزلةُ. لكي يتضح الأمر. وقد اتضحَ الآن. فلا تهجر عزلتك حتى لا يهجرنك ما اتضح لك. فإن أنت نطقت بغير ما توحي لك به العزلة فاحذر من مصيرك الذي سيُباغتك. صاعقاً. لا يلتفت اليك ولا يستشيركَ. هو كذلك يفعل في نقطةٍ مجهولة من الزمن الدائري. المعتقل في ذاته. رغماً عنك. صاعقاً ومحرقاً. يفتتُك ويذيب آخر كلماتك. وقد كنت بها احتميت. صواباً. بالنسبة لمن؟ خطأً بالنسبة لمن؟ أيها المنعزل المنكشف أمام مصيرٍ هو لك. فلا تحزن عليك. 5 ما ليس لي. أتابع الخرائط الموضوعة أمامي. كأنها رسمت منذ زمن متقادم. في القلوب. وحددت معالمها في الوقائع اليومية. لا بأس أن تكرر القول على نفسك. من حريتك التي تقتات من صبرك. هيهات تقول وأنت أدرى بالطرق السيارة. سرعةُ السير لا تسمح لك بالالتفات الى ما حولك. أو وراءك. كلُّ كلام. عن المرتجى هو من قبيل ما تسخر به من نفسك. منكراً مصيرك الذي لا بد يوماً أنه سيباغتك. فاعلم. كيف تنظر الى ما ليس لي. قناعة؟ لا. أبداً. هو ما عليك أن تديم التأمل فيه حراً. من أوهام تسرع الى الإقناع بما يناقض ظاهرها. فلا تحزن. وابعث لنفسك قولاً به تعتز بعزلتِك.