ثمة أسئلة كثيرة تثيرها عملية "ثعلب الصحراء" العسكرية التي أطلقتها الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا في العاشرة من مساء الأربعاء بتوقيت غرينتش تتعلق بمستقبل العراق كدولة وبتوازن القوى في منطقة الخليج واستقرار تلك المنطقة وبصدقية الولاياتالمتحدة. والهدف المباشر المحدد لپ"ثعلب الصحراء" كما أعلنه الرئيس بيل كلينتون هو "تدمير برامجه الرئيس صدام حسين النووية والكيماوية والبيولوجية، كذلك قدرته على تهديد جيرانه". وقد حشدت واشنطن ترسانة هائلة من الأسلحة الصاروخية الدقيقة والفعالة الكفيلة على الأقل بتحقيق جزء كبير من هذا الهدف عبر ضربات قوية ومركزة تستمر اياماً عدة. لكن "ثعلب الصحراء" مرتبط باستراتيجية اميركية أعم وأشمل تجاه بغداد بدأت واشنطن بلورتها في ايلول سبتمبر الماضي بتحقيقها مصالحة بين زعيمي الحزبين الكرديين الكبيرين في شمال العراق بهدف منع تدخل السلطة المركزية العراقية في شؤون كردستان العراق الذي تريد له ان يتمتع بحكم ذاتي. وشددت واشنطن في سياق اعلانها المصالحة بين مسعود بارزاني وجلال طالباني على حرصها على وحدة العراق وسلامته الاقليمية وعلى ان بارزاني وطالباني نفسهما يريدان ارتباطاً فيديرالياً ضمن عراق موحد. في عهد أقرب حاولت واشنطن البناء على اتفاق المصالحة ذاك بجمعها قادة فصائل وتنظيمات عراقية معارضة للقاء في سفارة الولاياتالمتحدة مع مارتن انديك مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، بعد ان كان وزير الدولة البريطاني ديريك فاتشيت قد التقى أولئك الاشخاص. في تلك الليلة، 25 تشرين الثاني نوفمبر من هذه السنة، ترك انديك المعارضين العراقيين وحدهم نحن نصف ساعة تحدث خلالها الى عدد من الصحافيين العرب في لندن، كنت أحدهم، وتحدث الينا قائلاً: "تغيير النظام في بغداد يتوقف على الشعب العراقي. دورنا دعم المعارضة". وكان قد أعلن لنا قبل ذلك ان واشنطن تعتزم تنفيذ "عملية خطوة بعد خطوة" ضمن اطار زمني طويل الأجل بالعمل مع مجموعات المعارضة العراقية لتحقيق قيام حكومة عراقية جديدة "أكثر تمثيلاً للشعب العراقي". وتبين لنا في اليوم التالي ان "ملاسنات" حدثت بين قادة المعارضة العراقية عندما تركهم انديك وحدهم ليتحدث الينا. وتبين في اليوم التالي ان رئيس "المؤتمر الوطني العراقي" اقترح اقامة "منطقة آمنة" في جنوبالعراق اعتبرها معظم الحضور "غير عملية" وتحتاج الى إما موافقة كويتية أو ايرانية. ألم تعد الولاياتالمتحدة تخفي انها تريد اطاحة النظام في بغداد، وقد أعلن الرئيس كلينتون ذلك مساء الاربعاء بوضوح: "الحقيقة الثابتة هي انه ما دام صدام في السلطة فإنه يهدد رفاه شعبه والسلام في المنطقة والأمن في العالم. أفضل طريقة لذلك هي انهاء التهديد تماماً بپ"إقامة" حكومة عراقية جديدة"، مضيفاً على الفور ان "إحداث التغيير في بغداد سيستغرق وقتاً وجهداً" - وهذه الإضافة تعني ان واشنطن تدرك صعوبة اطاحة صدام في غياب قوات مقاتلة على الأرض، لن تكون بالطبع قواتها هي، من هنا فإنها تعتمد سياسة ال "خطوة بعد خطوة" بأمل بلورة معارضة مقاتلة على الأرض تشجع قيام تمرد عام في جنوبالعراق بينما يكون شمال البلاد مقفلاً أمام الحكومة المركزية وقواتها. لا تبدو الضربات العسكرية الجوية والصاروخية التي وجهتها اميركا حتى الآن سوى "وخزات" تضعف القدرات العسكرية العراقية بالطبع ولكنها لا تحقق شيئاً آخر اللهم إلا التنديد بها. وما لم تكن تلك الضربات منسقة مع معارضة داخلية فعالة تتحرك ميدانياً، فستظل نوعاً من العبث المؤذي الذي يؤدي الى تآكل صدقية كل من المعارضة المشتتة وواشنطن والى إطالة أمد عذاب الشعب العراقي. هل أمام اميركا اذاً حرب طويلة بالطائرات والصواريخ مع دعم على الأرض من المعارضين الذين تنوي تجهيزهم وتدريبهم، وإما انهاء مسلسل الضربات السقيم؟ يبدو ان خيارها هو "النفس الطويل" بأمل كلمة قوى المعارضة وتحويلها مرتكزاً لتحقيق هدفها. في غضون ذلك ثمة أطراف اقليمية تتحفظ عن اطاحة النظام العراقي من الخارج وتتحفظ عن دخول ايران على خط مساندة تغيير الحكم في بغداد مع ما يعنيه ذلك من ترجيح امكانية تجزئة العراق وما سيرافق التجزئة من عملية ثأر وحمامات دم وزعزعة استقرار يصعب قياس مداها.