عمل الفنان حلمي التوني، عبر مسار طويل مع فن التصوير، على تأكيد علاقته بالفن الشعبي المصري، مختلفاً مع فنانين كبار راحلين تعاملوا مع نقطة الانطلاق نفسها اضافة الى الروح المصرية الشعبية التي ازدهرت تشكيليا في الخمسينيات والستينيات على ايدي فنانين مثل عبدالهادي الجزار وحامد ندا وسعيد العدوي، إلا ان ما يميز عمل حلمي التوني هو اتكاؤه اساساً على مجموعة من الموتيفات والرموز الشعبية يعالجها تشكيلياً في اطار اسطوري، فالهدهد والسمكة والحصان والذئب والنخلة والفتاة الصبوح ذات الضفائر والعينين الواسعتين الغامقتين هي تقريباً مجموع العناصر التي اتكأ عليها حلمي التوني في مجمل معارضه، مع الاختلاف في المعالجة واستحداث العلاقات بين هذه العناصر من معرض الى آخر. ظل حلمي التوني وفياً لعناصره الشعبية هذه، وظل عاكفا عليها وكأنه يقدم في كل معرض مجموعة "دراسات" لكل عنصر، بدءاً بالفتاة الصبيح مروراً بالحصان والهدهد والسمكة مفصحاً عن علاقات لونية مدهشة ومشرقة، صادمة وكابية، أليفة وغائمة إلا انها في مجملها تقدم مشهداً دينامياً شأن اللوحات الشعبية الحية في "الموالد" والافراح او اللوحات المحفوظة داخل روايات الرواة الشعبيين والقصص الملحمي الشفهيّ. والمعرض الاخير لحلمي التوني وقد جاء تحت عنوان "وجوه جميلة من زمن جميل" غاليري خان المغربي ينظر الى الماضي باحترام وعبره ينعطف الفنان عن طريقه الذي عبّده ووسعه الى طريق فرعي جديد، يدين به، في البداية، الى قوة الفكرة والاستبطان اكثر من التوالد الفني الذي يأتي بفعل التراكم والانتاج المتواتر. ففي هذا المعرض الذي يشتمل على خمس وعشرين لوحة، يوقف الفنان ريشته على رسم البورتريه، بمعنى آخر "يستحضر" البورتريه من النص الاول لهذا القرن، مستوحياً وجوه الاقطاب في الفن والثقافة والمجتمع اضافة الى مجموعة من الوجوه النسائية المجهولة، التي تمثل الروح المصرية الشعبية من دون تعيين ظاهري وان تم التأكيد على اهم السمات التي تميزها من خلال هذه البورتريهات لنساء من العامة وهن يرتدين "البرقع" او "اليشمك" بعيونهن الواسعة الضاحكة وخفة ظلهن. انه الزمن الماضي الجميل الذي ليس سيئاً كله، والذي يدعونا الفنان الى النظر اليه باحترام واكتشاف الجانب الايجابي والجمالي فيه. في كلمته المصاحبة للمعرض يتساءل الفنان حلمي التوني بعد اشارته الى "جون اوزبورن" ومسرحيته "انظر خلفك بغضب" هل كل الماضي يستحق اللعنة؟ تم يسارع بالاجابة: "لوحات هذا المعرض تقول لا" "فماضينا البعيد والقريب ايضاً، حافل بالثراء والجمال، جمال لم تستطع الحداثة ولا المحدثون عندنا خلق مثله، عمارات وسط القاهرة، صديقة الحيوان وبواباتها المنحوتة واسوارها الجميلة من الحديد، مبنى المتحف المصري، مبنى المتحف الاسلامي ودار الكتب المصرية.. فهل استطاع زمننا الحديث وكبارنا المحدثون تشييد بناء واحد "عليه القيمة" وهل استطاع عصرنا اضافة تمثال واحد "عليه القيمة" الى تمثال رمسيس او تمثال نهضة مصر؟ هذا في مجال الحجر، اما في مجال البشر فالامثلة عديدة لا تحصى ولا تنتهي لبشر رائعين اشاعوا في حياتنا ماض وحاضر جمالاً وسمواً ورفعة حسدتنا عليها الامم". ويضيف حلمي التوني: "في هذا المعرض قمت باختيار عينات ونماذج من هؤلاء البشر ورسمت لهم صوراً شخصية، انا الذي لا يحب رسم البورتريهات، تعبيراً عن اعجاب وتقدير واكبار لهؤلاء الناس، ومنهم الملكات والاميرات، المطربون والمطربات الحقيقيون والحقيقيات وفوق كل هذا وقبله وبعده، وجوه لبنات بلد مصريات ساحرات، سافرات ومبرقعات، وقت ان كان "البرقع" رمزاً للاحتشام والدلال والدقة والانوثة المكنونة، وقبل ان يتحول الى "حجاب" يخفي عورات لعل أهوفها الجهل والانغلاق والتعصب". إن أهم ما يميز هذا المعرض هو تأكيده على شيئين كادا يغيبا في ظل مناخ السيولة الذي يجرف كل شيء الى التمييع والنسبوية العدمية، اولهما: ان المبدع اياً كان مجال ابداعه ينطلق من مكان بعينه، مما يعني اعادة الاعتبار الى مسمى التاريخ والتراث ومجموعة القيم المتراكمة في المكان الذي يمثل نقطة الانطلاق، دون ان يعني ذلك ان يكون الفنان اسير هذه المسميات، فقط لا يغفلها عامداً باحثاً عن موضع يرتكز اليه فيما قدماه ملتصقتان بموضع آخر. الامر الثاني الذي يؤكد عليه "هو حكم القيمة"، فالفنان في هذا المعرض تحديداً واضح الانحياز الى قيم جمالية بعينها نظرياً في ما اعلنه على هامش المعرض وعملياً باصراره على الدخول في منطقة جمالية اصبح كثير من المشتغلين بالفن يستنكفون عنها ويرونها قد استنفدت اغراضها مهرولين الى "موضة" الاعمال المركبة والمجسمات و"الكولاج" العشوائي من المخلفات، الى غير هذه النزعات التي لم تعد ترى في اللوحة ذات الاطار والجدوى الفنية.