النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    "موديز" ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "aa3"    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الأخدود والشباب    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغائب محمود درويش حاضراً في مرآة الفرنسية
نشر في الحياة يوم 23 - 06 - 2016

تقرأ نصّاً في لغته الأصلية فيأسرك بسطوة لغته وإيحاءاته، ثمّ تقرأه مترجماً فيستحوذك كأنّك تقرأه للمرّة الأولى، وهذا يعني أنّ النصّ يحمل من الإبداع ما قد يُدهشك مرّة تلو أخرى، وأنّ المترجم تجاوز مهمة النقل إلى الفعل، معيداً إنتاج النصّ- لغوياً وفنياً وجمالياً- بدلاً من الاكتفاء بتأمين عبوره من ضفة إلى أخرى.
ومع قلّة- إن لم نقل ندرة- الترجمات الشعرية التي تخلّف في نفس قارئها مثل هذا الانطباع، على اعتبار أنّ ترجمة الشعر تبقى من أصعب الترجمات وأكثرها التباساً، يأتي نصّ محمود درويش البديع «في حضرة الغياب»، بترجمته الفرنسية، تزامناً مع الذكرى العاشرة لصدوره بالعربية، كي يمنح القارئ فرصة التعاطي مع نصّ (معلوم)، على أنّه نصّ (مجهول)، يستقلّ عن الأصل، وإن كان ملتصقاً به. ترجمة تُعيد الرغبة في اكتشاف مسارات جديدة في كلمات درويش المتنزهة بين النثر والشعر.
قد لا يكون مغرياً الحديث عن كتاب قيل فيه بالعربية كلّ شيء تقريباً، فهذا النص الذي كتبه درويش (2006) ليكون خاتمة أعماله، حين اعتقد أنّ الموت لن يمنحه فرصةً أخرى للكتابة، وضع فيه أجمل ما لديه، بل كلّ ما لديه. لكنّ الترجمة الفرنسية الجديدة تُشكّل مناسبة جميلة لإعادة قراءة العمل الذي كاد أن يكون الأخير، لولا أنّ القدر منح كاتبه سنتين إضافيتين كتب خلالهما ديوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي».
ارتأى المترجمان- الصديقان المقربان جداً من محمود درويش- الكاتب والناشر فاروق مردم بيك والكاتب والمؤرخ الياس صنبر، أن يعقدا مع القارئ وثيقة قراءة تعطيه منذ البداية إشارات على «انشقاق» ما عن الأصل، من دون المساس بأناقة الجملة الدرويشية وروحها. فإذا كان العنوان وفق تعبير فانسان جوف يمثّل «أفق التوقّع»، فعلى القارئ أن يتوقّع إذاً تدخّل المترجمين في نصّ صاحبهما الراحل، في مرحلة تسبق القراءة.
«غياب حاضر»
عمد المترجمان إلى تغيير العنوان الأشهر بين عناوين محمود درويش «في حضرة الغياب»، فصار «غيابٌ حاضر». ويأتي هذا التعديل الطفيف في العنوان ليُشرّع أمام النص معاني جديدة تُضاف إلى معناه الأول. ففي الأول، يُسجّل الشاعر حضوراً مُضمراً خلف الحضور الطاغي للغياب، بمعنى أنّه هو من يستحضر الغياب (مكاناً وزماناً وذاكرةً وجروحاً)، بينما يُسطّر العنوان الفرنسي، بلفظتيه المتضادتين، غياب الشاعر «الفعلي» (موته)، ليُعمّق حضوره «الشعري»، فكأنّما الأشياء تغدو في غيابها أشدّ حضوراً.
ومع الإنتقال من العنوان إلى النص المترجم «غياب حاضر» (أكت سود/ سندباد)، تعتريك رغبة في الانفصال عن النصّ الأصلي، كي تستمتع بجمالية اللغة الفرنسية في وصف المشهد/ الحالة بمزاج شرقي، عربي، فلسطيني، درويشي. والمعلوم أنّ ترجمة الشعر ليست سهلة على الإطلاق، وهي في معظم الأحيان معركة خاسرة للمترجم. ذلك أنّ لغة الشعر منكفئة على ذاتها، والشعر خلافاً للنثر «يُشير إلى نفسه بنفسه، ومن هنا تتأتى صعوبته»، وفق ما تقول ماريان لودورير، أستاذة ومديرة سابقة للمدرسة الفرنسية العليا للمترجمين.
ويُمكن لغة درويش أن تزيد إلى مشقة الترجمة الشعرية مشقّات أخرى، تبدأ بالصور الإيحائية ولا تنتهي بالموسيقى الداخلية للأبيات. وإن نجح المترجم في نقل اللفظ والمعنى، فهل يفلح في نقل غنائية الشعر، وهي خاصّة أساسية في شعر درويش؟ قد يستغرب أحدهم أسباب الحديث عن شعرية «في حضرة الغياب»، وهو في الأساس نصّ نثري، وليس ديواناً شعرياً. لكنّ درويش العاشق للنثر والمأخوذ بأرستقراطيته لا ينطق إلاّ شعراً، وهو الذي قال مرّة «لا يخرج مني إلاّ الشعر». ولو عدنا إلى «توطئة» الكتاب بالعربية لوجدنا: «هذه نصوص بين النثر والنثر، أو بين النثر والشعر، بل هي في صميم الكتابة الشعرية المتعددة الإيقاع والنبرة، في مناخ غني، متجدد، خصب، كأنّه بين الاعتراف وبين الجرح وبين الغياب وبين الحدود القصوى للتجربة».
في هذا الكتاب، يقطع الشاعر السجال الطويل حول الشعر والنثر، هو الذي كان من أشدّ المدافعين عن قصيدة الوزن (التفعيلة)، بأن لم يعد مهماً إن كان المنطوق به شعراً أم نثراً، بل الأهمّ أن يخرج المعنى في إيقاعٍ «يتطلّع فيه النثر إلى رعوية الشعر والشعر إلى أرستقراطية النثر». وهذا ما يتبدّى جلياً في قوله: «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر... الشاعر حائر بين النثر والشعر».
انعتاق وأمانة
قد لا يصحّ الحديث عن «انعتاق» مطلق في ترجمة الياس صنبر وفاروق مردم بك لنصّ صاحبهما الراحل، لكونهما حاولا التقيّد باختيارات درويش اللفظية والإيقاعية حين كانت تسمح لهم اللغة الفرنسية بذلك، وحافظا على تعادل الأشكال والأفكار، بلا زيادة أو نقصان، لكنّهما تحرّرا أحياناً من حرفية الترجمة «المفرداتية» بالاتكاء على الفهم والاستيعاب، وهما العارفان الخبيران بعوالم درويش الشعرية والإنسانية. ولا ريب في أنّ هذه المعرفة «الشخصية» العميقة بمحمود درويش، الإنسان والشاعر، أدّت دوراً وسيطاً في عملية الترجمة، وتحديداً بين فهم النصّ وإعادة التعبير عنه باللغة الثانية.
تمكن المترجمان في أحيانٍ كثيرة من الإمساك بإيقاع الجملة (الشعرية أو النثرية) عند محمود درويش، عبر استخدام مفردات سجعية تُعزّز الموسيقى الداخلية للأبيات، كما في: «لِدني من حبة قمح لا من جرح» (Fais moi naitre du grain de blé/ non d'une plaie). وفي أحيان أخرى، بدا الأمر صعباً عليهما، بل مستحيلاً، فافتقدت بعض النصوص الغنائية التي طالما اعتبر درويش سيّدها، كما في هذا المقطع الذي أفقدته الترجمة إيقاعه الداخلي: «أنت مسجّى أمامي/ كقافية غير كافية لاندفاع كلامي إليك/ أنا المرثي والراثي/ فكنّي كي أكونك/ قم لأحملك/ اقترب مني لأعرفك/ ابتعد عني لأعرفك». لكنّ الترجمة تظلّ في كليتها أمينة لروح النص وحريصة على أناقته.
من جهة أخرى، حافظت الترجمة على بنية النصّ (النصوص) الممتدة على عشرين فصلاً، يخاطب فيها الشاعر أناه الآخر، مستعيداً اللحظات الحاسمة في حياته، من الطفولة المبكرة حتى الموت المرتقب، موت يراه الشاعر أقرب إليه من حبل الوريد. هذه المرثاة بلحنها الجنائزي الحزين تدعو القارئ الفرنسي/ الفرنكوفوني إلى عالم محمود درويش الذي زاوج فيه بين الهذيان والحقيقة، بين النزق والصوفية، بين التأمّل والتذكّر، والأهمّ بين الشعر والنثر. ومثلما تتسّم البنية الخارجية للنصّ بدائريتها، بحيث يبدأ الفصل الأخير بما بدأه في الفصل الأول «سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلاّ في المطالع...»، فإنّ المعنى أيضاً ينتهي من حيث بدأ، عند نقطة «الزمن». ولا ننسى أنّ محمود درويش هو ابن الحكاية الأولى، وشاعر البدايات المأخوذ دوماً بتحولات الماضي، وهذا ما عبّر عنه في نصوص «في حضرة الغياب» قبل أن يتبلور في ديوانه الأخير بقوله: «إن المستقبل منذئذ، هو ماضيك القادم».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.