يشغل الدكتور يوسف القرضاوي مساحة مهمة على خارطة الفكر الإسلامي، إذ أن عدد مؤلفاته يبلغ 90 كتاباً تعالج قضايا المجتمعات الإسلامية، وتؤصل رؤية عصرية الى فقه مُيَسَّر، كما تنتقد الجمود الذي شاب الكثير من الاجتهادات المعاصرة. وعلى هامش زيارة قام بها أخيراً الى القاهرة التقته "الحياة" وأجرت معه الحوار التالي: القدس قضية حاضرة في الضمير المسلم منذ أن احتلها الاسرائيليون، فلماذا اخترت الكتابة عنها الآن؟ - لم أوقف الكتابة عن المدينة المقدسة في يوم من الأيام، لكني لاحظت ان البعض يبرر زيارته لاسرائيل بزيارة القدس، والصلاة في المسجد الاقصى. وهذا مرفوض - دينياً ووطنياً - فلا يجوز لمسلم ان يذهب الى المسجد الأقصى ليصلي فيه وهو تحت أسنة الحراب، ويرفرف عليه علم الاحتلال الاسرائيلي. فلا صلاة في المسجد الأقصى - لغير الفلسطينيين - إلا بعد تحريره من أسر اليهود. ومن أراد التعبد بالصلاة في مساجد مفضلة، فليصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصلاة فيه بألف صلاة، أو يصلي في المسجد الحرام، فالصلاة فيه بمئة ألف صلاة. إن الذهاب الى اسرائيل بدعوى الصلاة في الأقصى، أمر تستفيد منه الدولة الصهيونية، اقتصادياً وسياسياً، ويجب علينا مقاومة هذا الأمر، ولذا قلت في كتابي "القدس قضية كل مسلم" أن على المسلمين أن يهيئوا أنفسهم لجهاد طويل لتحرير القدس واسترداد فلسطين. يتحدث البعض عن وساطة تقوم بها بين الحكومات والجماعات الدينية؟ - الحقيقة أنني سعيتُ الى الوساطة بين هذه الجماعات وبعضها البعض، فهم يتقاتلون في ما بينهم، وكل جماعة تسعى الى تقويض أركان الجماعة الأخرى، وأنهم يرتكبون بقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واحدة من أكبر الكبائر في الاسلام. هذا هو حال الجماعات عندنا. فهي لا تقبل حتى مجرد التفاهم مع أمثالها، فكيف أذهب الى الأنظمة وأتوسط بينها وبين جماعات تتقاتل وتتصارع في ما بينهما؟ سعيت أكثر من مرة الى التوسط بين الجماعات الأفغانية، فماذا كانت النتيجة؟ - نعم سعيتُ مرات عدة للتوسط بين زعماء الأفغان، ولكن للأسف غلبت الأهواء والنزعات القبلية والعنصرية، واستجابوا للوساوس الخارجية، التي تحاول أن تفرق بين الأخ وأخيه، فانتهى الأمر إلى ما نراه اليوم. إنه واقع يندى له الجبين، وتدمع له العيون، وتتقطع له نياط القلب. إن رفقاء الجهاد والسلاح بالأمس، يتقاتلون اليوم. الدولة التي كنا ننتظرها لتكون قرة أعيننا، أصبحت تدّمر أمام أعيننا، خذلنا هؤلاء الناس للأسف. واقول للنادمين على مساعدة هؤلاء المجاهدين في يوم من الأيام، أننا كنا على حق حين مددنا يد المساعدة لهم، لأننا كنا نظن بهم خيراً "ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسّني السوء"، فهم كانوا على خير كثير، ولذلك نصرهم الله في البداية ولما تغيروا غيرّ الله ما بهم. هناك علامات استفهام كثيرة حول علاقتك بالتنظيم الدولي ل"الإخوان المسلمين"، وهو ما يؤثر في كونك مفكراً إسلامياً شاملاً؟ - لقد سُئلت أكثر من مرة حول علاقتي ب"الاخوان المسلمين"، ونفيتُ وجود أية علاقة الآن. فأنا نشأت في "الإخوان"، وآمنت بمدرسة حسن البنا ونهجه في التفكير، وميله الى الوسطية. ولكن ليس لي أية علاقة تنظيمية من أي نوع، لا بجماعة "الإخوان"، ولا بمكتب الإرشاد التابع لها ولا بمجلس شورى ما يسمى بالتنظيم الدولي. أنا أرى نفسي في خدمة كل المسلمين، وليس جماعة معينة. ثم ان "الإخوان"، في السنوات الأخيرة، تبنوا كثيراً مما كنت أنادي به. ففي المجال السياسي مثلاً، تبنوا قضية التعددية الحزبية، وهذا على خلاف ما كان يدعو إليه حسن البنا، الذي كان ضد الأحزاب والحزبية. وتبنوا فكري حول المرأة عندما أصدروا بياناً اتجهوا فيه الى نوع من التيسير والتوسعة. ما رأيك في الزواج العرفي الذي يقع بين بعض تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في غير دولة عربية في الوقت الراهن؟ - عملية زواج التلاميذ وشهادتهم لبعضهم البعض تشبه "مسرحية" أو تمثيلية هزلية، فليس هذا هو الزواج المشروع، لأن هولاء التلاميذ يلعبون ويلهون، والمذاهب الثلاثة، الشافعية والمالكية والحنبلية، تشترط وجود وليّ الأمر في الزواج، فلا بد أن يكون الولي حاضراً بنفسه أو بوكيله، فلا نكاح إلا بولي. وفي مذهب مالك: اذا اشترط في عقد الزواج أن يكتم الزواج ولا يخبر أحد به، فإنه يكون باطلاً أيضاً. وحتى لو تجاوزنا المذاهب الثلاثة، وأخذنا بمذهب ابي حنيفة الذي لا يشترط وجود الولي في الزواج، فإنني أرى أن مثل هذا الزواج ضار اجتماعياً، لأنه يُعتبر معصية من ناحية مخالفة القانون الذي أصدره "ولي الأمر"، ويوجب ويحتم أن يُسجّل الزواج ويوثّق، وهو أمر يجب طاعته، لأن طاعة ولي الأمر - في المعروف - واجبة. إباحتك لزواج "المِسْيار" أثارت العديد من ردود الفعل حول مدى مشروعية هذا الزواج؟ - البعض لم يفهم فتواي حول زواج المِسْيار، فأنا قلت: أُجيزه ولا أحبذه ولا أدعو إليه. ولم أكتب مقالة أو أخطب خطبة أدعو فيها الناس الى زواج المسيار، وانما سُئلتُ عن حكم هذا الزواج فقلت هو جائز شرعاً، لأنه استوفى شروطه الشرعية من الايجاب والقبول، والشاهدين اللذين يعتبران الحد الأدنى للإعلان والإشهار في نظر الشرع، والمَهْر، ونية الاستمرار. ولكني لا أحبذه، لأنه لا يحقق الأهداف الكاملة للزواج الاسلامي المنشود. في كثير من الأسر هناك مشكلة حول راتب المرأة من عملها، فالزوج يريد أن يحصل عليه، والزوجة تقول ان من حقها الاحتفاظ به؟ - لا بد أن يتفاهم الزوجان، خصوصاً اذا كانت المرأة عاملة، فالرجل الآن يتزوج امرأة عاملة لكي يتعاونا معاً على بناء البيت، لكن لا بد أن يتفقا على مقدار مساهمة المرأة. ورأيي ان المرأة يمكن ان تساهم بحد أقصى هو ثلث النفقة في البيت، لأن الميراث هكذا "للذكر مثل حظ الأنثيين". فالرجل مكلف شرعاً بالانفاق على بيته، والمرأة مكلفة شرعاً بالاحتباس لمصلحة البيت، فاذا خرجت المرأة من هذا الاحتباس، وتنازل الرجل عن بعض مكاسبه وفوائده. لكي تعمل زوجته، فلا بد أن تساهم المرأة في نفقة البيت بالثلث، والرجل بالثلثين. أما اذا كان الرجل موسراً، ولا يحتاج الى دخل المرأة، فليس عليها أن تساهم في نفقة البيت. انتشرت ظاهرة سفر الأزواج وتركهم لزوجاتهم لأكثر من عام أو عامين، وهو ما ترتب عليه بعض المشاكل؟ - في المذهب الحنبلي، لا يجوز للرجل ان يتغيب عن زوجته أكثر من ستة أشهر إلا بإذنها، فاذا رضيت الزوجة وقالت له: نحن في حاجة الى الأموال لتربية الأولاد، والمعيشة ضيقة هنا، فاذهب وابحث لنا عن مستقبل، فله أن يسافر. لكن ما أبيح للضرورة، يُقدّر بقدرها، فاذا اضطر الشخص للسفر، وكان يمكن أن يسد هذه الضرورة باغتراب لمدة عامين، فلا يجوز له ان يجعلها ثلاثة أو أربعة. ومرة أخرى يجب على الرجل ان يستأذن زوجته قبل السفر، فيذهب اليها ويسألها: هل تأذنين لي بالسفر؟ فاذا لم تأذن له فلا يجوز له ان يسافر، فاذا سافر من دون إذنها يكون آثماً شرعاً. كيف ترى وظيفة المرأة في المجتمع الاسلامي المعاصر؟ - أرجو أن تكون المرأة في عصرنا كما كانت في عصر الرسالة والنبوة والصحابة، عنصراً ايجابياً وعضواً حياً في جسد المجتمع، لا رئة مُعطّلة. إن التشدد ما زال هو السائد في معاملة بعض المتدينين للمرأة، وهذا يشكل خطراً على مستقبل المجتمعات الاسلامية. فالمرأة نصف المجتمع من ناحية العدد، ولكنها أكثر من النصف اذا نظرنا الى تأثيرها في ابنائها وزوجها، ويمكن أن تكون عنصر بناء أو معول هدم، فاذا كان البعض يأخذ على عدد من النساء تبذلهن وتحللهن من عقدة الفضائل، فيجب ان نحارب هذا الجانب، إنما لا نتعداه إلى أن نحرم الحلال بدعوى سد الذريعة، لأن علماءنا من قديم حذروا من التوسع في سد الذريعة، كما حذروا من التوسع في فتح الذريعة وقالوا: اذا سددنا الذريعة سنجد من يقول: لا نزرع العنب خشية أن يتخذ خمراً، فهل هذا معقول