الكشافة تعقد ندوة الاتجاهات التربوية الحديثة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    الصحة الفلسطينية : الاحتلال يرتكب 7160 مجزرة بحق العائلات في غزة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    التعليم : اكثر من 7 ٪؜ من الطلاب حققوا أداء عالي في جميع الاختبارات الوطنية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    من أجل خير البشرية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص سود وبيض وهيسبانيك . مستقبل الشباب الاميركي محفوف بالمخاطر في "عالم بارد جديد"
نشر في الحياة يوم 01 - 12 - 1998


على من تقع مسؤولية اهمال الشباب الاميركي؟
جواب السؤال في كتاب وليم فينغن ومن خلال سرده للاحداث وتحليلاته لها ومما توفر له من ادلة. وقد نشر الكتاب اخيراً بعنوان "عالم بارد جديد" "Cold New World", by William Finnegan New York: Random House, 1998.
المؤلف صحافي سبق ان عمل مراسلاً لصحيفة "النيويوركر" الاميركية في افريقيا حيث قام بتغطية اخبار ووقائع الحروب في تلك القارة، وحاز على جوائز قيمة. وهو يعالج في كتابه اوضاع الشباب الاميركي من الطبقتين الوسطى والدنيا من الجيل الجديد في نهاية هذا القرن.
وتجدر الاشارة هنا الى ان لعنوان كتاب فينغن صلة بعنوانين لعملين ادبيين شهيرين: الاول رواية "عالم جديد جسور" لألدوس هكسلي 1932، الذي صوّر في روايته انواع الرعب المرتقب في القرن الخامس والعشرين. اما العمل الآخر فهو مسرحية "العاصفة" لوليم شكسبير، الذي استخدم هذا التعبير لأول مرة.
يعتبر "عالم بارد جديد" والذي ضمّنه المؤلف عنواناً فرعياً مستقلاً: "النشوء في بلد جاحد"، عملاً صحافياً رائداً يحتوي بالاضافة الى كل من المقدمة والخاتمة، مئات من الهوامش والاسماء والمراجع اعتمدها المؤلف في انتاج هذه المساهمة التي تتوخى في موضوعها فهم الشباب الاميركي على عتبة القرن الحادي والعشرين.
وتشمل موضوعات الكتاب اربع قصص تم سردها باسلوب "غير خيالي" وتناول فيها اوضاع الشباب الاميركي المراهق في اربعة مواقع من الولايات المتحدة على الشكل التالي:
- الشباب السود في مدينة نيوهيفن في ولاية كونكتيكت.
- الشباب السود في الريف في مدينة سانت اوغسطين في ولاية تكساس.
- شباب الجيل الثاني من مهاجري المكسيك في مدينة سان واكيم فالي في ولاية واشنطن.
- وشباب الپ"سكن هدس" Skin Heads، وهي جماعة الرؤوس الحليقة، المكونة من الشباب البيض العنصريين، والمناوئين للأقليات. وهم موجودون في منطقة صحراوية، قرب لوس انجليس تعرف باسم الانتلوب فالي.
يذكر ان المؤلف امضى ردحاً من الزمن مع هذه المجموعات الشبابية بغية دراسة اوضاعهم المعيشية والاجتماعية والنفسية ولم تنقطع زياراته لهم بين فينة واخرى، لمراقبة وتسجيل ما قد يطرأ على اوضاعهم من تغيرات او تطورات. وقد جاوز المؤلف، في احيان اخرى، وحسب اعترافه، اطر الصحافة المهنية المألوفة، التي تحذر الكتاب من اقحام انفسهم في الموضوع بشكل شخصي.
ولا يتعارض موضوع الكتاب مع الدراسات الاكاديمية والتي تؤكد جميعها بأن الشباب الاميركي يواجه متاعب شتى، وعلى رأسها الشؤون الاقتصادية، من شأنها ان تحد من خياراتهم وتطلعاتهم المستقبلية، لا سيما ان مشاريع الاعانة الاجتماعية التي كانت توفر في الماضي بعض الطمأنينة قد وهنت الآن.
وركز المؤلف في قصصه تلك على حال الفقر التي يعاني منها الشباب الاميركي والتي انحدرت الى ادنى مستوياتها مقارنة بالمستويات الاقتصادية للدول المتقدمة. ولم ينس ان يشير الى قانون "اصلاح الرعاية الاجتماعية"، الصادر في عام 1996 والذي وقع عليه الرئيس كلينتون متجاهلاً توقعات وزارة الصحة والخدمات الاجتماعية، ومنها تقديراتها بأن هناك ما ينوف على مليون طفل، وعلى وشك ان يدفعوا الى حافة الفقر، على رغم ما تشير اليه الاحصائيات من تعاظم الثروات في ايدي الاقلية.
ويعتقد المؤلف ان معدل دخل الفرد لمعظم الاميركيين تدنى خلال الجيل الماضي. ومع ان الارقام الرسمية تؤكد انخفاض نسبة البطالة، الا ان مؤلف الكتاب المذكور يؤكد ان هذه المقولة قابلة للنقاش. لكن توافر الوظائف لغالبية الشباب الاميركي لم يعد يشكل كما في الماضي بطاقة تؤهلهم الى دخول "امان الطبقة الوسطى".
يقول فينغن في مقدمة كتابه: "هناك رعب خفي يطل برأسه، من الوظائف ذات الاجور المتدنية والمتزايدة مع مرور الوقت" وقد بلغت هذه الزيادة، كما يقول المؤلف حوالي 30 في المئة ، ويشغلها صغار الكسبة من الشباب الاميركي، الشباب الذين يزاملون الفقر، وتكاد مداخيلهم تلك لا تكفيهم او يكادون لا يستطيعون النهوض بعائلاتهم، ما يفسر بشكل واضح، بروز طبقة جديدة في الولايات المتحدة، تتصف بالعنف والعدائية، اخذت تحل مكان الطبقة السابقة".
ويشير المؤلف الى التغير الطبقي في المجتمع الاميركي والى الاثراء الفاحش واللاشرعي، لكن فينغن يركز في كتابه على العائلات التي عانت من هذا التغيير وبصورة خاصة الشباب. كما يتناول في كتابه، وصفاً دقيقاً وتحليلاً متميزاً لمختلف وسائل حياتهم المعيشية وطرق تعاملهم مع بعضهم البعض، خصوصاً في المرحلة التي يسعون فيها لأن يشقوا طريقهم في الحياة، في عالم جديد، اصبح حقاً، بارداً.
ثم ينحو المؤلف باللائمة على ارباب الأسر والمدارس لانهم لم يعودوا يقومون بالتزاماتهم تجاه الشباب. فمن جهة لم يعد لأرباب الأسر، الوقت الكافي، يكرسونه، كما يجب لرعاية ابنائهم او الاشراف على تربيتهم بشكل لائق، فهم في غالب الامر منغمسون في العمل، لا سيما ان لمعظمهم حاجة للعمل في اكثر من وظيفة واحدة، من جراء الضغوط المعيشية القاسية. او انهم كما الحال مع شريحة كبيرة عاطلون عن العمل، او ربما مدمنون على المخدرات. ويلفت فينغن الانتباه الى ظاهرة خطيرة هي تخلي بعض ارباب الأسر عن الادوار والالتزامات العائلية تجاه ابنائهم الذين لم يبلغوا الرشد، فنرى العديد من الأطفال "يقومون بتربية انفسهم بأنفسهم".
ثم لا يكتفي المؤلف بانحاء اللائمة على ارباب الأسر فقط بل انه ينعى الدور الرسمي والسياسي، الذي من شأنه ان يساعد على زيادة اهمال هؤلاء الاطفال، وبصورة خاصة الأشد فقراً والاقل رعاية. مع ذلك يقر المؤلف ان اسوأ انواع الفقر السائد الآن في الولايات المتحدة يظل اكثر رحمة واعتدالاً من سواها من اوضاع أسر وأطفال في العديد من بلدان العالم.
واستند المؤلف الى دراسة حديثة ليشير الى ان الاعتقاد في "الحلم الاميركي" ما زال يراود ويداعب خيالات غالبية المواطنين الاكثر فقراً، وان مثل هذا الاعتقاد يساعد في ترسيخ، بقوة اشد واكثر فعالية، صدقية هذه المقولة في اذهان غالبية الفقراء من الاميركيين الافارقة، اكثر مما هو سائد عند نظرائهم من الطبقات الوسطى.
ولكن، ما يثير الدهشة، حقاً، ان الشباب الاميركي، وبصورة خاصة الذكور، والذين هم بدون شهادات جامعية، عانوا خلال الاربع والعشرين سنة المنصرمة من انخفاض في اجورهم. كما ان هناك ادلة تشير الى احباط بعض الطلاب، المسجلين في الجامعات، والى امتعاضهم من تناقص فرص العمل، بينما يلتحق فقط ثلثا خريجي المدارس الثانوية في مؤسسات للدراسات العليا، بغية الحصول على شهادات جامعية، اي ان هناك نسبة تقل عن الواحد لكل ستة طلاب من غير المتخرجين، يعتبرون، حسب العرف المألوف طلاباً "غير تقليديين" والمنتمون الى هذه النسبة تتراوح اعمارهم بين 18 و22 عاماً يواصلون التحصيل الجامعي على اساس الدوام الكامل ويعيشون في حرم الجامعة. ويضيف المؤلف ان ثلاثة ارمباع القوة الاميركية العاملة لا تحمل شهادات جامعية الشهادة المشار اليها تساوي مدة اربع سنوات من التحصيل الدراسي وان رواتب هؤلاء العمال اللاجامعيين في انخفاض مستمر ومنذ العام 1973.
يفتتح المؤلف كتابه بقصة كتبها في شكل مقال نشر في مجلة "النيويوركر". وكانت، عند ظهورها، بمثابة قدوة وإلهام، للعديد من الكتاب. القصة تتقصى حالة "تاري"، الشاب الاسود، ويصفه فينغن بالشاب المقدام الذي يعيش في مدينة نيوهيفن. ويستدرك المؤلف قائلاً ان الفقر في الولايات المتحدة، ليس له صلة بالموقع الجغرافي، ولا بالمدن الكبيرة، ولا حتى بالعرق او باللون. ويبدأ المؤلف سرد سيرة حياة تاري عندما بدأ عمله مبكراً، كبائع للصحف في الشوارع وكان له من العمر احدى عشرة سنة، ثم ينتقل بعد سنة واحدة الى عمل آخر، هو تنظيف الطاولات، لينتقل من بعدها الى وظيفة اخرى فاخرى حتى اواخر الثمانينات حين برزت "تجارة الكوكايين" المحظورة، على رغم ما جلبت هذه التجارة من ثروات كبيرة في احد احياء المدينة، التي كان تاري احد سكانها. وتم جني مثل هذه الثروات بفضل استعداد الشباب الاميركي الابيض للقدوم من اماكن سكنهم من الاحياء الراقية، في ضواحي المدن الكبيرة، لشراء المخدرات.
وشرع تاري، وهو في الخامسة عشرة من عمره في الاتجار بالكوكايين، بتسويقه "كبسولات" او عبوات صغيرة، كل عبوة بعشرة دولارات وذلك في اروقة ابنية السكن الحكومية التي يقطنها المواطنون ذوو الدخل المحدود، ومعظمهم من الاقليات. وكانت الوظائف التي يشغلها تاري مرهقة للغاية، اذ بلغت مناوبة عمله 12 ساعة في اليوم وعلى امتداد ستة ايام في الاسبوع.
ويفتقد تاري والده الذي تركه لتكوين عائلة اخرى. ونتج عن هجرة الأب عن عدم بذل اي جهد لانقاذ تاري الأبن من تجارة المخدرات. الا ان هذا المشروع الاجرامي، اي الاتجار بالمخدرات، كان سبباً مهماً - حسب قول فينغن - في توفير فرص اقتصادية للعديد من الشباب، لا سيما ان الدخل الناتج عنها كان افضل عشرات الاضعاف من اي دخل قد يتأتى من اي مصدر آخر في المدن الكبيرة، المكتظة بصورة عامة بنسبة كبيرة من الاقليات الاثنية والعرقية.
ولئن اعتبر دخل هذه التجارة ركيزة اساسية في "الاقتصاد القومي السري" فانها غالباً ما تزدهر جنباً الى جنب مع الفقر. ولهذا يتحدى فينغن "التصور العام" الذي يعتبر ان المخدرات مسألة تعني السود فقط. ومثل هذا التصور، حسب قول فينغن، ناتج عن وسائل الاعلام المنحازة، والتطبيق الانتقائي لقوانين مكافحة المخدرات. ثم يدعم المؤلف رأيه بالاستناد الى كتاب من تأليف جيمس مونرو الذي يدرس في جامعة شيكاغو، ورد فيه "ان الافارقة الاميركيين" يشكلون ما نسبته 12 في المئة من مجموع السكان، بينما نسبة الذين يتاجرون بالمخدرات هي 13 في المئة. والنسبة التي تلقي الشرطة القبض عليها لحيازتها المخدرات هي 35 في المئة، بينما تصل نسبة الذين يدانون بجريمة حيازة المخدرات الى 55 في المئة ونسبة الذين يحكم عليهم بالسجن 74 في المئة.
وبما ان والدة تاري نفسها كانت مدمنة على المخدرات، فقد انتقلت مسؤولية تربية ابنها الى الجدة التي اعتمدت اساليب الانضباط التقليدية لابقاء احفادها في المسار السليم.
واخذت قصة تاري بعداً آخر بعد ان قبضت الشرطة عليه بتهمة جريمة لم يرتكبها. وكاد ان يتسبب "المحامي العام"، اي المحامي الذي تعينه المحكمة للدفاع عن المتهمين الذين لا تمكنهم ظروفهم المادية من توكيل محام خاص للمرافعة عنهم باصدار الحكم بالسجن على تاري لمدة ثلاث سنوات لولا تدخل فينغن ومحام خاص حيث نجحا في اسقاط كل الاتهامات بحق تاري. ووجد تاري لاحقاً وظيفة في مأوى للعجزة كغاسل صحون، ولكن لم تمر فترة طويلة حتى عاد الى تجارة المخدرات.
يروي فينغن احداث العنف التي لا تتورع العصابات من القيام بها، وقد اصبح تاري عنصراً مهماً في خلاياها، ويحلل المؤلف هذا التحول بقوله ان العنف هو نتيجة حتمية لمجتمع ما يحيا بعض افراده على هاجس حياة استهلاكية مفرطة، فيما تحيا الاكثرية في بؤس وشقاء. وبهذا يكون المؤلف تجاوز مرة اخرى تقاليد الصحافة المهنية، حيث يتوجب على الصحافي الالتزام بعدم الخوض في امور تتعدى سيرة الاشخاص الذين يحاول الكتابة عنهم، وذلك عندما عمد الى زيارة تاري، واصطحبه الى مكتبه في جامعة "ييل" Yale وشرح له كيفية البحث عن اسماء الكتب التي يود الحصول عليها من خلال الكومبيوتر، علماً انه لم تسبق لأنامل تاري ان لمست لوحة مفاتيح الكومبيوتر.
ثم تتوالى الاحداث فتلقي الشرطة مجدداً القبض على تاري، فيحكم عليه هذه المرة بالسجن في احد سجون الولاية لمدة عامين. وتتميز سجون الولايات بالقسوة على السجناء مقارنة بالسجون الفيديرالية.
ويقوم فينغن بزيارة تاري في السجن ويستخلص في سرده للقصة انه من الافضل لتاري ان يظل وراء القضبان ولو فترة قصيرة. فللسجن ايضاً مزايا ايجابية، كونه يوفر مناخاً آمناً وحميماً، وهذا ما لا يوفره الشارع، وبالتالي في امكان تاري ان يواصل دراسته الثانوية وحيازة شهادة بذلك. ولكن، بما ان السجون الاميركية مكتظة بالسجناء بادرت ادارة السجن الى اطلاق سراح تاري قبل انقضاء مدة الحكم، وفي اطار الحرية الجديدة، راح تاري يتنقل مجدداً في العمل بين ما هو شرعي وما هو سري.
هناك عشرات القصص المشابهة لقصة تاري، على رغم اختلاف التفاصيل والاحداث، وجميعها تحكي قصة معاناة الشباب الاميركي في عالم جديد، لكنه بارد.
ومما لا ريب فيه ان مستقبل الشباب السود ليس افضل في ريف ولاية تكساس، ولا ايضاً مستقبل الشباب المراهق، الذين يقيمون في ولاية واشنطن والذين هم من اصل اميركي لاتيني.
قضية العرق هي الفكرة الاساسية لپ"عالم بارد جديد". ويدعي المؤلف حدوث تغير في مستويات المجتمع في شتى نواحيه، حتى في اولوياته وموارده، وفي عدم تحقيق المساواة العرقية بين ابنائه، مما يحتم اعادة النظر في موضوع التمييز العنصري، والذي اصبح تقليداً تستند اليه، ولو بصورة غير قانونية، المدارس واماكن السكن في الولايات المتحدة، ويستشهد بدراسة اعدتها جامعة هارفرد حول سبل الغاء التمييز العنصري في المدارس. وتشير الدراسة الى تحول كبير في الرجوع الى موضوع العزل العرقي، اي منذ صدور قرار المحكمة الفيديرالية العليا عام 1954 والذي بت بشكل حاسم في الموضوع. وبناء على ذلك يتوقع المؤلف ان الاوضاع القاتمة والاحوال الاكثر سوءاً لا تزال في انتظارنا.
لكن العنصرية لا تصبح عنصرية عسكرية تستخدم العنف سوى في القسم الاخير من الكتاب، حيث يعالج المؤلف نشاطات الجماعات العنصرية المعروفة باسم "السكن هدس"، والمنتشرة بكثرة بين الجاليات الصحراوية في مدن "بالم دايل" و"لنكستر". وسبق للمؤلف ان نشر مقاله هذا ايضاً في مجلة "النيويوركر" في عددها الصادر في تشرين الثاني نوفمبر 1997 بعنوان "ما ليس مرغوباً فيه".
يقول ان هناك عدداً كبيراً من الشباب تورطوا في "حرب الشوارع" ويسرحون في منطقة "الانتلوب فالي" الواقعة في ضاحية خارج مدينة لوس انجليس. وهناك جماعة تعرف باسم "نازي لو رايدرز" Nazi Low Riders العنصرية وجماعة اخرى تعرف باسم "الشارب" Sharps تناصب "سكن هدس" العداء.
وبطل القصة الرئيسي هنا هو داريوس هيوستن ذو الخلفية الافرو - اميركية والاوروبية، وينتمي الى جماعة "الشارب". يتابع المؤلف قصته فيقول: بينما كان داريوس يحتسي الشراب في احدى الليالي يثمل فيقوم بطعن احد اعضاء جماعة الپ"نازي لو رايدرز". وعلى رغم ذلك ترفض السلطات ان توجه الاتهام ضده، فتعزو عائلة الضحية السبب الى تدني مستواها الاجتماعي.
ويسوق المؤلف في كتابه ايضاً قصة "ماندي"، الفتاة التي عمدت الى تغيير دينها وتحولت الى دين آخر. وقد التحقت ماندي فيما مضى بطائفة "المورمنز"، ويجري الانتساب الى هذه الطائفة وفق اجراءات سهلة، من غير تعقيد. ولكن، بعد ان ادمنت مخدر "المتافينات الصاف" انضمت كعضو في جماعة الپ"نازي لو رايدرز" وهي لا تزال في الصف التاسع من الدراسة.
يؤكد فينغن في كتابه ان الشباب المراهقين يستولي عليهم اليأس، بسب عدم ايمانهم بأي شيء. لكن العامل المشترك لدى معظم الاميركيين هو ايمانهم بالليبيرالية الاستهلاكية. وتأكيداً لذلك يشير المؤلف الى الثقافة الجماهيرية التي تصب في نهاية الامر في حياة الاميركي اليومية. بالاضافة الى اشارته الى الاحصائيات التي تؤكد ان الشاب الاميركي الذي يكاد ان ينهي دراسته الثانوية يكون قد تعرض لمشاهدة ما ينوف على 38000 دعاية تلفزيونية حتى ذلك الوقت. ويكون امضى ما يقارب ثلاث ساعات يومياً في مشاهدة التلفزيون. وتؤكد هذه الادلة بالتالي ان الشباب الاميركي: "هو اياه المستهدف، وباصرار عنيد من قبل الراشدين، من اجل بيعه التسلية وايضاً كماليات الاشياء"، ثم يضيف فينغن ملاحظة هي "صناعة الثقافة الشبابية والتي يقول عنها بأنها من اهم التجارات التي قد يصل رأسمالها الى بلايين الدولارات وانها لم تعد - حتماً - تجارة ذات طابع محلي بعد عبورها الى باقي دول العالم بمعنى انها اصبحت تجارة دولية، لها صفة الرائد والقائد والتي تدقق في التعرف على اذواق الشباب لكي تقدم لهم ما يروقهم من دعايات. اما منافسها الرئيسي في داخل الولايات المتحدة وفي خارجها فهو الاستهلاكية الاصولية.
ثم يخلص المؤلف في استنتاجه الى اتهام لأنها تلكأت في الاستجابة الى التغييرات في الاسرة الاميركية: فالشكل الاولي للعائلة الحديثة المكونة من المعيل وكاسب الرزق وربة المنزل، هو نظام يعاني من الضعف والوهن.
اهدى المؤلف كتابه الى اهله بقوله: "لقد احسنوا في تربية اطفالهم، ونأوا عن الانانية". وكان المؤلف نشأ في مدينة لوس انجليس، وتخرج من جامعة كاليفورنيا في عام 1970 فرع مدينة سانتا كروز. وألف ثلاث روايات وهو في العشرينات من عمره. ثم عهدت اليه احدى المدارس في جنوب افريقيا مهمة التدريس فيها، وجميع طلابها من السود. وقد تحدث عن تجربته معهم في كتاب له بعنوان "عبور الخط: عام واحد على ارض التمييز العنصري" الصادر في عام 1986. ورشح قسم مراجعة الكتب في صحيفة النيويورك تايمز "عبور الخط" واحداً من افضل عشرة كتب من النوع اللاخيالي.
ويختتم المؤلف كتابه بطرح السؤال التالي: "ما هو الثمن الذي يستعد الاميركيون لدفعه من اجل تحقيق العدل والسلام الاجتماعي" خصوصاً اننا، نحن الاميركيين "نزج الفقراء في السجون ونتخلى شيئاً فشيئاً عن تحقيق حلم المساواة بين الجميع، على حساب مصالحنا الخاصة، ونترك "لجماعات الضغط"، Lobbies ان تدير اعمال الحكومة". وهذه الجماعات لها القدرة - بسبب نفوذها المالي - على التحصن في داخل الجالية الامنع اختراقاً، وارسال ابنائها الى المدارس الخاصة. أفنعجب بعدئذ، لماذا غدا عالمنا بهكذا قساوة وسخرية، ومحطة شكوك في الطبيعة البشرية!
ويتبع السؤال سؤال آخر: لماذا اصبح شبابنا غرباء عنا؟ يجيب المؤلف عن هذا السؤال قائلاً: "انه ببساطة، انما نحن صنعنا لشبابنا مثل هذا العالم".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.