نالت رواية كولوم مكْكان «ليفتل العالم العظيم» هذه السنة الجائزة القومية للكتاب في الولاياتالمتحدة، ولا غرابة في ذلك، فهي طريفة البناء الفني، ممتعة المضمون وجذابة الأسلوب. تنقسم الرواية إلى أربعة كتب، في كل منها عدد من الفصول. ويخال القارئ أن لا رابط بين الكتب الأربعة ولا حتى بين الفصول، فتبدو مجموعة من القصص القصيرة المنفصلة بعضها عن بعض. قبل الكتاب الأول يصف الكاتب حادثاً حقيقياً حصل عام 1974 في نيويورك حين ربط رجل حبلاً فولاذياً بين أعالي برجي مركز التجارة العالمية، وسار عليه من البرج الأول إلى الثاني، والناس ينظرون إليه مشدوهين، خائفين أن يقع من هذا العلو الشاهق. يستوحي الكاتب هذا الحادث لينسج منه روايته، ولا تتضح للقارئ العلاقة بينه وبين كتب الرواية الأربعة وفصولها إلا شيئاً فشيئاً، بالتدريج. مثلاً، الفصل الرابع من الكتاب الأول يصف مفصلاً كيف تدرّب الرجل على السير على حبله (ص157-167). تبدأ الرواية بقصة شقيقين مراهقين في إيرلندا تركهما والدهما مع أمهما. وعلى رغم عناية الأم المفرطة بهما انصرف أصغرهما، كوريغان، إلى الشرب، لا يعاشر إلا المتسولين والسكارى، إلى أن توفيت الأم. فانقلبت حياته رأساً على عقب، بدأ يقرأ كتباً دينية، ثم انضمّ إلى الآباء اليسوعيين، الذين أرسلوه إلى نيويورك. أما أخوه فترك دراسته الجامعية، والتحق بوظيفة ما لبث أن تركها ليلحق بأخيه. حين وصل إلى نيويورك وعثر، بعد لأي، على بيت أخيه، وجده في حي معدم قذر، باب الشقة مفتوح، تدخلها بين حين وآخر بغايا شبه عاريات، يستخدمن المرحاض ويغسلن وجوههن. فأوضح له أخوه أن بيته مفتوح لكل من ليس له مأوى، أن إيمانه كان في مشاركة المعذبين فقرهم وعذابهم، ومحاولة مواساتهم، ولم يعرفوا يوماً أنه رجل دين. عبثاً حاول أخوه أن يقنعه بترك هذا العالم البائس. واكتشف الأخ سياران، أن كوريغان مغرم بممرضة كانت قد اكتشفت مرضه الغريب. وذات يوم كان عائداً في سيارته مع مومس خلّصها من السجن فصدمته سيارة وقتلا. ويقفز بنا الكاتب في الفصل الثاني إلى اجتماع أربع نساء فقيرات في بيت امرأة غنية. تدخل عليهن مارسيا واصفة الرجل السائر على الحبل، قائلة إنها ظنته ابنها الميت قد جاء من السماء ليخاطبها. ولا نعرف إلا بعد حين أن ما جمعهن هو موت أولادهن في حرب فييتنام، إذ تصف كل منهن كيف تلقين نبأ موت أولادهن. ثم يأتي الفصل الثالث هو حوار بين رجل وزوجته لم يظهرا في الرواية من قبل، ثم يتضح من الحوار بينهما أنهما صاحبا السيارة التي صدمت كوريغان وهربت. الزوج يحاول أن ينسى الحادث، أما زوجته لارا فيؤنبها ضميرها، وتذهب إلى المدفن لتحضر دفن المومس وكوريغن، وحين تلتقي بأخيه تعترف له بأن زوجها هو الذي قتل أخاه. يدعوها سياران إلى كأس وينتهي الفصل نهاية غامضة بجملة «هناك خوف من الحب» (ص156). ويبقى عنصر التشويق إلى أن يلقى عليه الضوء في الكتاب الرابع والأخير من الرواية. كذلك يبدأ الكتاب الثاني بما يبدو منفصلاً تماماً عما سبق، إذ يتدخل أربعة شبان في أنظمة حواسيب أناس لا يعرفونهم، وبذلك يتصلون برجل وامرأة يتابعان تحرك الرجل السائر على الحبل. فيصف الكاتب مفصلاً وبطريقة شيقة ومثيرة حركات الرجل، وقوفه، جلوسه، قفزه، وتساؤل الناس هل سيقع؟ فلعلّ الكاتب أراد بهذا الفصل أن ينبه إلى براعة هؤلاء المتدخلين في برامج الحواسيب («هاكيرز») وسلطتهم وخطرهم. وكأنه بذلك أراد أن يظهر الفرق بين هؤلاء الشبان والبغايا اللواتي يعود إليهن في الفصل التالي حيث يعطينا صورة مفصلة ومؤثرة لحياتهن، بحلوها ومرّها، مظهراً إنسانيتهن، إخلاصهن، حبهن لأولادهن، كرامتهن، وحشية القوّادين الذين يستلغونهن. وينتهي الكتاب بما بدئ، بالرجل السائر على الحبل، إلا أنه لا يصف حركاته هنا وإنما مشاعره و «وضعه عقله في المكان حيث كان جسمه» (ص241)، وذلك قبل أن تحيط به طوافات الشرطة وتبعده مكبلاً. وفي الكتاب الثالث نرى القاضي سوديربيرغ، زوج كلير التي كانت قد استضافت الفقيرات في الكتاب الأول. حكم للتو على والدة المومس التي قتلت مع كوريغان وظن أن كوريغان قواد، وهو يأمل الآن أن تحوّل إليه قضية السائر على الحبل. وينتقل في الفصل اللاحق إلى ذكريات الممرضة التي أحبها كوريغان، فللمرة الأولى في حياته قضى عندها ليلة حب قبل أن يقتل بأسبوع. ثم يأتي الفصل الثالث حيث تسرد المتكلمة ذكريات طفولتها، ولا نعرف إلا بعد عدد من الصفحات أنها غلوريا، السوداء الفقيرة التي كانت بين من استضافتهن كلير في الكتاب الأول من الرواية، فهي تسرد تاريخ العبودية التي عانت منها أسرتها، وكفاحها المر لترقى في سلم المجتمع إلى أن تركها زوجها مع ثلاثة أطفال، كبروا ثم قتلوا جميعاً في الحرب. وفي الكتاب الرابع والأخير يقفز الكاتب إلى عام 2006، ليملأ الفراغ في الحيوات التي غادرها في الفصول السابقة، فنعرف أن غلوريا تبنت طفلتي المومس التي قتلت مع كوريغان، أنهما أصبحتا شابتين ناجحتين في حياتهما المهنية، أن غلوريا توفيت وأن كلير التي أصبحت صديقتها هي الآن على فراش الموت، وأن لارا طلقت زوجها وتزوجت أخا كوريغان الذي أصبح رجل أعمال غنياً في إيرلاندا. لعل ما يلفت في هذه الرواية براعة الكاتب الفنية وقدرته على الربط بين فصول متباعدة يظن القارئ في أول الأمر أن لا علاقة بينها، وإذ بالكاتب يرينا الصلة بينها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خفيّة. مثلاً، بعد الفصل الذي يموت فيه كوريغان والمومس بعد أن صدمتهما سيارة هرب سائقها، ينتقل الكاتب إلى ما نخالها قصة أخرى ليتضح بعد ما يزيد على مئة صفحة أن الحوار الدائر بين الشخصين فيه كان حواراً بين الشاب الذي قاد السيارة القاتلة وزوجته التي يؤنبها ضميرها، فيما يحاول الرجل نسيان الحادث وإقناع نفسه وزوجته بأنه لم يكن سوى حادث مؤسف. والشخصيات التي تقدمها الرواية شخصيات حيّة نجح الكاتب في تصويرها ونفسياتها من خلال أفعالها وأقوالها. مثلاً، يرينا التأثير الذي تركه في كوريغان الطفل مغادرة الأب أسرته، حين يرفض المراهق التسليم على والده العائد بعد موت الأم، أو أن يخاطبه، أو يسمح له بالنوم في غرفة الوالدة، ثم يوزّع ملابسه كلها على المتسولين. أو تلك الصفحات الرائعة التي تصوّر الصراع في نفس كوريغان بين نذره العفة لأنه راهب، وحبه الشديد للمرضة التي اكتشفت مرضه واشتهائه جسدها الجميل وإذعانه للرغبة فيه. كذلك يحلّل في شكل رائع خجل كلير لأنها أغنى من رفيقاتها، وخجلها لأن زوجها اليهودي أصرّ على تعليق رمز يهودي في مدخل الشقة (ص86)، أو الصراع في قلب الأم وهي تودع ابنها الوحيد الذاهب إلى الحرب، فتفكر في كل ما تريد أن تقول له إلا أن انفعالها يخرسها فلا تقول له شيئاً، ولن تراه بعد ذلك. والشخصيات الروائية الرئيسية تعيش في أحياء معدمة، فيصوّر الكاتب مفصلاً القذارة والفقر والمخدرات والعنف والبغاء. يعيشون في هذا الجو ضحايا العنصرية والخوف: خوف من الفقر، من عنف القبضايات والطعن، من السرقات والإجرام، والقتل والاغتصاب، من عنف القواد والشرطة. حتى رئيس بلدية نيويورك كان فاسداً وكذاباً (256-257). ولا بدّ أن يرافق تصوير هذا الجو نقد لاذع، كنقد القضاء الأميركي حيث لا يهمّ القضاة إلا إنهاء الحكم بأسرع وقت ممكن، أو أن ينالوا الترقية، مهما كان الأمر، وشعورهم بأن من العبث محاربة النظام السائد أو تغييره. وفي شكل مؤثر وغير مباشر ينتقد العنصرية حين يصوّر كيف أن الأسود لا يستطيع أن يشعر بالراحة مع أناس بيض، وأن الأبيض لا يمكن أن يعتبر الأسود مساوياً له، فحين أرادت كلير البيضاء أن تستبقي كلوريا السوداء بعد أن غادر الضيوف الآخرون، أحست غلوريا أن كلير تريد أن تستبقيها لتنظف ما خلفه الضيوف، وحين أصرّت غلوريا على الذهاب همست لها كلير: «كنت دفعت لك بكل سرور، غلوريا». (ص299) والأمثلة كثيرة. بقيت كلمة على الأسلوب. مثلاً، حين تتكلم مومس سوداء يستخدم الكاتب كلماتها وتعابيرها. وحين يبيّن أن المثل التي كانت للقاضي في أول شبابه قبل أن تعلمه الحياة والمهنة أن يتنازل عنها، يكتب: «المثالية التي كانت له يوماً أخذها وحشاها في روب أسود رخيص، والآن حين يبحث عنها، لا يجدها حتى في أكثر الشقوق سواداً». (ص303)