على الرغم من ان المسألة كلها كانت مأسوية وأنها انتهت بمأساة وكارثة كبيرتين أصابتا الشعب العراقي والأمة العربية، فإن ما كان يحدث من غرائب الأمور في تلك الأيام العصيبة، قد يبدو اليوم مضحكاً هزلياً ومن العسير ايجاد أي تفسير منطقي له. وما نعنيه هنا هو تلك الزيارات التي راح يقوم بها عدد من المسؤولين السياسيين - وخصوصاً المعارضين - وبعض وجوه الحياة الاجتماعية والسياسية في العالم إلى بغداد والغاية المعلنة دائماً هي السعي إلى تحرير الرهائن الذين كان صدام حسين يحتجزهم. تلك الزيارات وصلت، حينذاك، إلى ذروتها يوم السابع من تشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام 1990، حين فاجأ المستشار الألماني الغربي السابق ويلي براندت العالم بوصوله إلى بغدد متحركاً من أجل انقاذ نحو ثلاثمئة رهينة. وزيارة براندت تلك، جعلت الأميركيين يفقدون أعصابهم، فإذا بالناطق باسم البيت الأبيض يدلي بتصريح يقول فيه "إن هؤلاء الأشخاص يتركون للعراق ان يتلاعب بهم مجازفين بأن يصبحوا رهائن هم بدورهم". كانت زيارة ويلي براندت ذروة تحرك، سبقه إليه ادوارد هيث رئيس الحكومة البريطانية السابق الذي كان توجه بدوره إلى بغداد يوم 21 تشرين الأول اكتوبر، وقابل الرئيس العراقي صدام حسين ليأخذ منه وعداً بتحرير قريب لعدد غير محدد من الألف والأربعمئة رهينة بريطانية كانت لا تزال موجودة في بغداد. ومن بين الرهائن - حسب المصادر الانكليزية - كان هناك 53 عجوزاً ومريضاً. يومها صرح هيث، بعد مقابلته صدام، أن هذا الأخير لا يبدو عازماً على مغادرة الكويت. زيارة هيث كانت على أي حال ذات طابع "إنساني" لا علاقة لها بالسياسة، ومع هذا لم يفت رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر ان توجه انتقادات عنيفة لمواطنها هيث. بعد هيث، اذاً، كان دور براندت الذي سبقه الى بغداد بيوم واحد رئيس الحكومة اليابانية السابق ناكازوني، ولمناسبة زيارته أعلنت بغداد عن قرب تحريرها 77 رهينة يابانية. أما ويلي براندت الذي كان يأمل بتحرير 300 ألماني "من دون أي تنازل أو تفاوض" حسبما صرح هو شخصياً، فإنه حصل على ضعفي ما حصل عليه الياباني: أخذ معه في الطائرة التي عادت به الى المانيا 120 أسيراً، من بينهم مئة الماني. غير أن ذلك النجاح الجزئي لم يشعر براندت بالسرور، اذ أنه خرج من مقابلته للرئيس العراقي متشائماً حول امكانية الوصول الى حل. فإذا أضفنا الى هذا انتقادات العواصم الأوروبية وواشنطن له، نفهم مرارته هو الذي اتهمه الأميركيون بالعمل، موضوعياً، على شق صفوف الجبهة المتحالفة ضد صدام. ولعل هذا ما يفسر ما قاله سياسيون ألمان بعد ذلك من أن ذلك اليوم كان نهاية حياة ويلي براندت السياسية. حيث أن زيارة براندت لصدام ساهمت، حسب التحليلات الألمانية والأميركية في اشعار صدام بأهمية وقوة خادعتين جعلتاه يتصلب في مواقفه، ليقع أكثر وأكثر في فخ الأميركيين الذين - على أي حال - كانوا يريدون منه مزيداً من التصلب، لكي تصل الأمور الى نهاية جذرية لا الى نهاية معتدلة. بقي ان نذكر أن زيارات هيث وبراندت وناكازوني الى العراق، كانت بداية زيارات راحت تتتالى تباعاً، من جان - ماري لوبان، الزعيم اليميني الفرنسي الفاشي الذي لم يكف عن ابداء اعجابه بصدام وموافقته على ما يفعل وكانت جائزته 55 أسيراً أوروبياً اصطحبهم معه في طريق عودته، الى كورت فالدهايم، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الى العديد من النواب البلجيكيين والسويسريين وصولاً إلى المطران كبوجي الذي اصطحب معه إلى ايطاليا 70 أسيراً ايطالياً. وكذلك الحال بالنسبة إلى القس الأميركي الأسود جيسي جاكسون، والملاكم محمد علي كلاي الذي زار بغداد بدوره، وأكد ان صدام "أعطاه" 14 أسيراً أميركياً، والوزير الأميركي السابق رامزي كلارك... كانت زيارات متعددة تملأ أخبارها أعمدة الصحف، وتثير الكثير من الاعجاب لدى أطراف والكثير من الاستهجان لدى أطراف أخرى. وفي نهاية الضرب سجلت نوعاً جديداً من الديبلوماسية، نوعاً لم تكن الحياة السياسية العالمية قد ألفته من قبل. ولعل أطرف ما فيه أن كل الذين قاموا بالرحلة إلى بغداد كانوا سابقين: رياضيون سابقون، قساوسة سابقون، رؤساء حكومات سابقون، وما إلى ذلك. وكان براندت على أي حال أشهرهم. من هنا فإن زيارته أغاظت البيت الأبيض أكثر من أية زيارة أخرى في الصورة: ويلي براندت وطارق عزيز في بغداد.