من الأسئلة الرئيسية للقرن المقبل ما إذا كان النظام الجديد للاقتصاد العالمي سيجمع شمل العالم بالفعل أم أنه سيعمق الهوة ما بين "نحن" و"هم" - هذه الهوة التقليدية التي تجد تعبيرها الأوضح في الفرق ما بين الضفتين العربية والأوروبية للبحر الأبيض المتوسط. ففيما تعلمت اوروبا درس الحرب العالمية الثانية، وقطعت على رغم المشاكل التي واجهتها شوطاً كبيراً على طريق التكامل الاقتصادي تعاني الدول العربية المتوسطية، بعد فشل محاولاتها العديدة للسير على طريق مشابه، من التناقض ما بين استقلالها السياسي وحاجتها الى التكامل الاقتصادي. هكذا نجد في نهاية هذا العقد ميلاً في ميزان القوى لصالح الأوروبيين الى درجة لا سابق لها، وهو وضع لا يمكن اعتباره صحيحاً. من جهته قام الاتحاد الأوروبي بعقد اتفاقاته الثنائية العديدة مع دول المتوسط العربية في برنامج شمولي موحد باسم "ميدا"، كرسه مؤتمر برشلونة في تشرين الثاني نوفمبر 1995. السمة الأهم للبرنامج افتقاره الى التكافؤ، إذ تمكن الاتحاد الاوروبي، بقدراته الاقتصادية الهائلة، بسهولة من فرض مطالبه على تلك الدول. ومن هنا يعني البرنامج فتح الأسواق الجنوبية امام الخدمات التي يمكن ان تقدمها اوروبا لكن من دون فتح اسواق الشمال في المقابل أمام ما يمكن ان تقدمه تلك الدول، مثل المنتوجات الزراعية. وجاء برنامج "ميدا" على غرار برنامج الاتحاد الأوروبي للتبادل مع دول اوروبا الشرقية، الذي يهدف إلى اجتذاب رؤوس الأموال الأوروبية الى تلك المناطق. وانتقد تقرير دائرة المحاسبات للاتحاد الاوروبي هذا البرنامج، مشيرا الى ان غالبية الأموال العامة المخصصة له دفعت لتغطية تكاليف شركات الاستشارة الغربية. أما برنامج "ميدا"، الذي يهدف إلى اجتذاب الاموال الاوروبية الى الدول العربية، فيمكن القول، بشيء من الصراحة ان لم يكن الفجاجة، انه جاء لتعويض الدول الجنوبية للاتحاد الاوروبي، التي شعرت انها استبعدت عن "كعكة" اوروبا الشرقية، عن طريق تسهيل دخول رؤوس اموالها الى الساحل العربي من المتوسط. لكن هناك فرقاً كبيراً، على رغم انه غير معلن، بين الحالين. إذ أن دول الكتلة السوفياتية كانت انهارت اقتصادياً، وكاد موقفها ان يكون استجداء اوروبا صراحة لكي تأتي وتسيطر على اقتصاداتها. ويختلف هذا تماماً مع وضع الدول العربية المتوسطية، حيث نجد مقاومة سياسية وثقافية خلفتها تركة الامبريالية. اضافة الى ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يحدد معاييره للمساعدات في شكل متزايد وفق متطلبات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أي ربط المساعدات بخفض الانفاق العام وفتح الأسواق. ويمكن لخطوات كهذه ان تؤدي الى تصاعد المعارضة في الدول العربية والقائها مسؤولية تردي مستويات المعيشة على "الامبريالية الجديدة". من هنا فإن على الاتحاد الأوروبي ان يبدى كرماً أكثر اذا لم يرد مفاقمة عدم الاستقرار في المنطقة. لكن هناك المشهد الأوسع. فشعار "التجارة وليس المساعدات" لا يزال مفيداً. لكن اذا اراد العالم ان يتاجر عليه ان يتعلم كيف يقوم بذلك. وكان الاتحاد في طليعة الأطراف التي طوّرت ما سمي خطأ نظام التجارة التعددي وشكلت، في نهاية جولة باراغواي لاتفاق "غات" في 1994، "منظمة التجارة العالمية" ومهمتها وضع قواعد التجارة لكل الأطراف. أقول ان التسمية خاطئة بسبب استمرار القوى الغربية الامبريالية سابقاً، عدا خلال فترة قصيرة اثناء السبعينات بعد الصدمة النفطية، في احتكار السيطرة على جدول اعمال التجارة العالمية. وهناك ضغوط هائلة على الدول النامية للانضمام الى النظام الجديد المفتوح للتجارة العالمية، لكن قدرتها على التأثير بعد دخول النظام ضئيلة تماما. من الانصاف ل "منظمة التجارة العالمية" الاعتراف بجهودها لتنوير الأطراف واعلامها بوظيفتها ودورها في الاقتصاد العالمي. وبعد الشكاوى من الفرق بين الجهود الكبيرة التي تبذلها المنظمة لجذب الدول النامية الى النظام الجديد ومساعدتها على دخوله، ثم عدم تقديم ما يكفي من المساعدة للمشاركة الفاعلة فيه، أحرزت المنظمة تقدماً كبيراً مشكوراً نحو اصلاح هذا الوضع، من ذلك التعاون مع "اونكتاد" لتحسين تنافسية الدول النامية. وهذا هو السياق الذي يمكننا ضمنه الترحيب باعلان "منظمة التجارة العالمية" عن سلسلة من الندوات الاقليمية عن التجارة والبيئة، من بينها ندوة للشرق الأوسط تعقد في القاهرة نهاية الشهر الجاري. ذلك ان البيئة هي بالضبط القضية التي تخشى الدول النامية أن تكون غير مستعدة لمواجهتها لكنها مضطرة الى الدخول في حوار حولها بسبب الضغوط على الدول الغربية من قبل منظمات حماية البيئة التي تتمتع بقوة التمويل والتنظيم. اضافة الى ذلك يخشى بعض الدول النامية ان تستخدم الدول الغربية الاعتبارات البيئية لحماية قطاعاتها الصناعية المكشوفة امام المنافسة. الا ان هذا بالضبط هو الحيز الذي يمكن فيه ان نحقق تلك الوعود التي يحملها برنامج "ميدا" عندما يتحدث بايجابية عن التدريب الاداري والاعتبارات البيئية وتشجيع التصدير. وأي طريقة أفضل لتنفيذ الوعود من استعمال اموال "ميدا" لتهيئة دول المتوسط العربية لدخول السوق العالمية؟ إن الحوار يكلف ثمناً لا بد من دفعه، واذا اراد الاتحاد ان يتجنب في منطقة المتوسط العربية الفشل الذي لقيه برنامجه للتعاون مع اوروبا الشرقية عليه ان يعرض على الدول عبر المتوسط فرصاً متبادلة حقيقية. وقد نتمكن، اذا تحركنا في هذا الاتجاه، من جعل منطقة المتوسط نموذجاً للتعاون في قلب النظام الاقتصادي العالمي الجديد. * نائب في البرلمان الأوروبي، الناطق باسم الكتلة البرلمانية الاشتراكية لشؤون التجارة