اتيح للحكومة الاسرائيلية في الأيام الأخيرة ان تتأكد أمراً كانت تتغاضى عن الاعتراف به. وهو إن سُمّي "مبادرة" قدمتها حكومة ليكود من أجل الانسحاب من جنوبلبنان لم يعد موجوداً ولا هو موضع بحث. أي ان المبادرة ماتت. والسبب واضح: المبادرة لم تكن جدية، وانما كانت مجرد محاولة ايحاء بأن ثمة ايجابية ليكودية، بل كانت محاولة "شطارة" في تمرير حيلة مصاغة بشكل قانوني. أما الدليل على سقوط تلك المبادرة فنجده عملياً في تجدد النقاش داخل اسرائيل، كما كان قبل شهور وقبل سنة بل قبل سنوات. هناك رغبة في الانسحاب، واقتناع به، والحاح عليه من جانب فئات عديدة في المجتمع، لكن هناك اعتبارات الأمن. وعلى رغم ان الأمن بات مكلفاً منذ زمن، وليس فقط بالخسائر البشرية، فإن العقل الأمني الاسرائيلي لم يتوصل الى حل لهذا الاشكال. الأمر المحسوم عند المحللين الاسرائيليين هو أن تسوية الوضع في جنوبلبنان مرتبطة نهائياً بالتوصل الى سلام مع سورية. وهذا السلام مرتبط بدوره بالارادة السياسية في اسرائيل. وهذه الارادة مضطربة وغير مستقرة. إلا انها تبدو أخيراً، وبسعي أميركي هادئ وبعيد عن الأضواء، كأنها مستعدة لمعاودة العمل على المسار السوري. هل تساهم ضربات المقاومة في لبنان في حسم التردد والمماطلة الاسرائيليين؟ في أي حال، تبدو تلك الضربات مبرمجة في هذا الاتجاه. أياً تكن التحليلات، برهنت المقاومة في جنوبلبنان على أنها تستطيع التكيّف مع أي وضع. فهي سواء حوصرت داخل الشريط الحدودي أو وضعت لها حواجز بفعل التدخلات الأميركية لحماية الاحتلال الاسرائيلي، تبقى قادرة على ايلام الاسرائيليين وتكبيدهم ثمن احتلالهم فضلاً عن تبديل أوهامهم في شأن الأمن. ولعل هذه المقاومة، بمعزل عن ظروفها وتكوينها، هي المشروع العربي الوحيد الذي نجح في تحدي الغطرسة الاسرائيلية. بالطبع لن تنفع تهديدات اسحق موردخاي ب "العواقب الوخيمة" أو "بكل ما تملك اسرائيل من قوة" في تغيير الوضع في جنوبلبنان أو معالجته. فحكومة اسرائيل مضطرة للتعامل مع المشكلة بواقعية. ليس أمامها جيش نظامي تحاربه، اما الميليشيا التابعة لها فلا يكاد عناصرها يعرفون مصيرهم غداً أو بعد غد وبالتالي يصعب الاعتماد عليها لشن حرب مضادة للرد على المقاومة بأساليبها. وإذا كان الغزو فكرة تداعب أحلام نتانياهو وعصابته، إلا أنه مستحيل. وأما الضربات الواسعة على نمط ما حصل في نيسان ابريل 1996 فهي بلا جدوى. إذاً هناك الآن، كما كان دائماً، طريقان للخروج من المأزق: إما الشروع في الانسحاب تطبيقاً للقرار 425 من دون شروط، وإما الشروع في التفاوض مع سورية للتوصل الى اتفاق سلام. عدا ذلك يستطيع السياسيون الاسرائيليون ان يثرثروا الى ما لا نهاية، إذ أنهم في الخيارين أمام حالتي احتلال ينبغي أن تنتهيا بإزالة الاحتلال. ولا مجال للتحايل