يختلف مفهوم الحب عند البشر.. هناك من يعتبر الحب احساساً عابراً.. وهناك من يعتبره ضرورة من ضرورات الوجود الانساني.. بالنسبة لإنسان عابث لا يشكل الحب سوى مغامرة طارئة ولحظات سعيدة تنقضي ثم تسقط في اعماق اللاوعي. ولكن الحب بالنسبة لإنسان جاد يشكل مركبة كاملة من القيم.. ولعل الفرق بين الاساس البنائي والمتعة الطارئة هو الفرق بين روميو ودون جوان وبين قيس وعمر بن ابي ربيعة.. ان روميو رفض الحياة حين تصور ان جولييت قد ماتت، كما ان قيس انفرط عقله حين ادرك ان ليلى قد خرجت من مجاله وصارت زوجة لغريب.. لقد كانت ليلى هي الكوكب الذي يدور حوله قيس، فلما اختفى هذا الكوكب بجاذبيته صار قيس يدور في مجال الفراغ والوحشة والجنون.. افلت منه عقله حين افلتت ليلى من بين يديه.. أما دون جوان رمز الرجل الذي يبحث عن وجه جديد كل ليلة فإنه لا ينزعج كثيراً حين تفلت منه المرأة، بل لعله يحس بالراحة العميقة لانه كان قد بدأ يمل هذا الوجه وهذه الملامح، وقريب من هذا شعور شاعر عابث، إن تكرار التجربة عنده اهم من التجربة ذاتها، لان تكرار التجربة تكرار للمتعة وتفجير لطاقاته الشعرية ويعني ميلاد قصائد جديدة، وميلاد القصائد عند الشعراء اهم من ميلاد الاطفال.. ما هو موضع الحب في حضارة الغرب التي نعيش في ظلالها؟ تعتبر حضارة الغرب ان الحب تجربة سهلة، ويتحدث ابناء هذه الحضارة عن الوقوع في الحب، من اول نظرة او من خامس نظرة.. ويرجع هذا لارتباط الحب عندهم بالجنس.. ويصعب على هؤلاء ان يتصوروا الحب بغير هذا الجانب المادي البحت.. يختلف الوضع عندنا في الشرق. إن الحب ينتمي الى الروح اكثر من انتمائه للجسد، كما انه ينتمي الى القيم اكثر من انتمائه للمادة، وبالتالي فان من الصعب على من فقد القيم ان يحب.. لان الحب هو الحجر الاخير في هرم القيم، ومن المستحيل ان يوجد الحجر الاخير في الهرم والهرم نفسه غائب.. انما يقدر على الحب من يقدر على الفهم والملاحظة والاحساس والعطاء وكلما زاد ميراث الانسان من المعرفة والذوق زادت قدرة القلب الانساني على الحب.. واول قوانين الحب انه عطاء.. وهو عطاء يحس فيه من يعطي انه يأخذ.. والعطاء يحتاج الى رقي في الانسان، ويحتاج الى ادراك قيمة الايثار.. هذا كله نادر، لان معظم الناس يحبون انفسهم الى الحد الذي يحجب عنهم رؤية الاخرين.. انما يبدأ الانسان بالخروج من ذاته وحب الآخرين اذا ارتقى علمه ونضجت شخصيته واستقر وجدانه. واي نظرية عن الحب يجب ان تبدأ بنظرية عن الانسان، نحن نعرف ان الانسان جزء من الطبيعة.. جزء من الارض والسماء، جزء من عالم الخلائق الحية، ورغم ذلك فهو ليس طبيعة وليس ارضاً وليس حيواناً، انما هو كائن مدهش فيه هذا الحنين الى الارض الأم، وفيه في نفس الوقت هذا البعد الهائل عن الاصل الذي جاء منه.. الانسان حياة تعي انها حياة.. هذا الوعي بالذات والآخرين والماضي والحاضر سمة من سمات الانسان.. يعى الانسان انه حياة منفصلة عن حياة الآخرين، يعي ان عمره قصير على الارض، يعي انه جاء الى الحياة بغير ارادته، وسيذهب عنها بغير استئذانه.. سيموت الانسان امام احبائه فلا يستطيعون له شيئاً وسيموت احباؤه امام عينيه فلا يستطيع لهم شيئاً، هذه الغربة ازاء قوى الطبيعة والمجتمع والدولة، هذا كله يجعل وجوده سجناً لا يمكن احتماله.. يتحول الانسان الى الجنون لو لم يحرر نفسه من غربة هذا السجن، ويربط نفسه بالبشر والعالم الخارجي، يحدثنا علم النفس ان تجربة الغربة او الانفصال هي مصدر جميع انواع القلق، ان يكون الانسان منفصلاً عن العالم ومغترباً فيه يعني ان يكون عاجزاً وغير قادر على الامساك بالعالم، غير قادر على الامساك بالاشياء او الناس، غير قادر على ممارسة نشاطه، وهذا يعني ان العالم يستطيع ان يغزوني بغير قدرة مني على الرد، وهذا يؤدي الى الاحساس بالهزيمة، ومن الهزيمة يولد الاحساس بالعار والذنب. يرى علماء النفس ان اعمق حاجات الانسان هي حاجته للتغلب على انفصاله.. وليس هناك طريقة للاتصال سوى الحب..