اصبحت تلحّ عليّ الآن، بعد التوقيع على اتفاقية "واي بلانتيشن"، فكرة انه قد يكون من المقدر لياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية أن يلعبا من الآن فصاعداً، دوراً مماثلاً لدور إمارة الحيرة في الجاهلية. ففي عهد سابور الاول ملك الفرس حوالي عام 240 ميلادية اسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات، وأمّروا عليها عمرو بن عديّ. وجاء تأسيس هذه الامارة في اعقاب محاولات عدة قام بها الفرس لإخضاع العرب لحكمهم اتقاءً لغزوهم وسلبهم، ثم عدلوا عن ذلك لما يستلزمه فتح جزيرة صحراوية من ضحايا في الانفس والاموال، ولأن العرب لم يكونوا خاضعين لسلطة واحدة إذا تغلب المحارب عليها خضعت له الامة، بل هم قبائل متعددة لا بد لإخضاع البلاد من الدخول في حروب معها جميعاً، وليس ذلك باليسير. من اجل هذا رأى الفرس في الشرق، والروم في الغرب، ان خير وسيلة لدفع شر العرب ان يساعدوا بعض القبائل العربية المجاورة على ان يستقروا على التخوم، ويعملوا بالزراعة، فيشكلون حاجزاً يصدون غارات البدو المتكررة، فتكونت امارة الحيرة على تخوم فارس، وامارة الغساسنة على تخوم الدولة البيزنطية عند هضبة الجولان. وكان النظام المتبع في امارة الحيرة ان يقدم سكانها العرب الطاعة لملك فارس، ويوليّ هو عليهم اميراً من انفسهم. وفيما كان عليهم ان يحموا بلاد فارس من كل مغير عربي يقدم من نواحيهم، قام الفرس، في مقابل ذلك، باعفائهم من دفع الإتاوة. وقد اصبح عرب الحيرة بمرور الايام الصلة بين الفرس وعرب الجزيرة، يحملون اليهم التجارة الفارسية، ويبيعونها في اسواقهم، ويبشرون بالفرس ومدنيتهم. ثم حدث قبيل مطلع القرن السابع الميلادي ان غضب كسرى على النعمان بن المنذر الخامس أمير الحيرة فحبسه حتى مات حوالي 602م. وبموته ألغت الحكومة الفارسية نظام امارة الحيرة، وولت على الاقليم حاكماً فارسياً، واستمر الحال على هذا المنوال حتى عام 633م، حين فتحها خالد بن الوليد في ايام الخليفة ابي بكر الصديق. وفي ظني ان كل هذا شبيه بالترتيبات الامنية التي تضمنها اتفاق "واي بلانتيشن" والالتزامات التي فرضه على ياسر عرفات ومنظمته. فالهدف الرئيسي لدى اسرائيل والولايات المتحدة من ابرام الاتفاق هو حماية الاسرائيليين "من هجمات العرب المتكررة" مقابل التنازل عن مساحة محدودة من الاراضي تقوم فيها منظمة التحرير الفلسطينية بدور الشرطة او حرس الحدود، فتنصبّ نقمتهم وقمعهم على أناس من جنسهم، لمصلحة من كانوا حتى الامس القريب ألد أعدائهم، مقابل الحق في التقاط فتات المائدة الاسرائيلية - الاميركية. وبوسعنا بعد ذلك ان نتوقع سماع اوامر اسرائيلية يومية الى المنظمة باعتقال هذا الشاب العربي او ذاك، وقمع هذه الجماعة العربية او تلك، وتوبيخات صارمة للقيادة كلما افلح عربي في اختراق الاجراءات الامنية المشددة وأغار على موقع اسرائيلي، او تهديد وانذار بپ"إلغاء نظام الامارة كله، وتولية حاكم اسرائيلي على الاقليم" متى ثبت عجز المنظمة عن الوفاء بالتزامات الاتفاق التي هي الهدف الوحيد من وراء ابرامه. ربما كان الفارق الوحيد بين الترتيبات الفارسية عام 240م والترتيبات الاسرائيلية عام 1998م، هو انه لم تكن في زمن الفرس وكالة استخبارات مركزية اميركية تساعد طرفي الاتفاق على استئصال شأفة الخطر العربي! * كاتب مصري