دعتني احدى القنوات الفضائية العربية لمناقشة فيلم "48 ساعة في اسرائيل" الذي لا يعد آخر حلقات سينما التجسس، ذلك انه يجري حالياً تصوير فيلمين جديدين في الاتجاه نفسه. وبعد ان كانت نادية الجندي وحدها التي قدمت وتقدم مثل هذه الافلام، ها هي الهام شاهين تدخل على الخط، لاسباب كثيرة، منها الدخل المالي الضخم لمثل هذه الافلام، وايضا مساحة واسعة من الشعبية لدى الجماهير التي يوفرها القيام ببطولات مثل هذه الافلام، التي توفر - بعد ذلك - نجومية من نوع خاص. في الطريق الى الندوة التي قيل لي انها على الهواء مباشرة رحت ابحث عن كتابات تكون قد تناولت هذه الظاهرة عثرت على كتاب محمود قاسم "جواسيس الادب. جواسيس السينما" ورحت استعيد هذه الظاهرة كلها، التي كانت مثار احاديث كثيرة مع الصديق صالح مرسي، الذي بدأ حياته الادبية كاتباً يحاول ان يسير على درب حنا مينا في تأسيس كتابة ادب البحر وادب الشواطئ، ثم اتجه بكل قوته الى كتابة بطولات مصرية ضد العدو الصهيوني في قصص حصل عليها جميعها من جهاز الاستخبارات المصري. لأبدأ القصة من أولها. الفيلم الذي دعيت لمناقشته بعد عرضه، يخدعك ابتداء من عنوانه. فيمكن القول إنه "48 ساعة في اليونان" وليس في اسرائيل، ذلك ان البطلة التي تسافر بحثاً عن اخيها انما تسافر الى اليونان وليس الى اسرائيل والمغامرات كلها تتم في اليونان. وعلى رغم ان احداث الفيلم تدور قبيل حرب السادس من تشرين الاول اكتوبر 1973، الا ان التصوير تم في شوارع اثينا في التسعينات. وها هي موديلات السيارات وانواعها، وشكل الشوارع، تكشف عدم الدقة في تناول العمل، وعدم الرغبة في اخذ الفيلم بجدية بدعوى انه يكفي الموضوع الوطني، وبطولة "نجمة الجماهير" له. ولكن خلف هذه التفاصيل الكثيرة التي يمكن ان تقال عن الفيلم، توقفت طويلاً امام ظاهرة سينما التجسس على اسرائيل، او ضد اسرائيل إن شئت الدقة، وابطالها، والشعبية او الجماهيرية التي حدثت لهم بسبب القيام بهذه البطولات، خصوصاً ان الظاهرة امتدت من افلام السينما الى مسلسلات التلفزيون. من الصعب القول ان هذه الظاهرة تعود الى السبعينات فقط، اذ انها وجدت في ظروف سابقة على هذه الحقبة. فالصراع يسبق السبعينات، بكثير. ذلك ان سينما التجسس تكون عادة مرتبطة بوجود صراعات سياسية او حروب بين دول او حضارات. هذا على رغم ان الجواسيس عرفتهم البشرية منذ سنوات بعيدة. الجاسوس بشر من دم ولحم. مغامر وخائف. جسور ومتردد، يعمل في الخفاء، لا نعرف عن بطولته اي شيء إلا بعد وفاته. واقصد بذلك ان الجاسوس الوطني - ان صح التعبير وهو الذي يعمل ضد العدو - عليه ان يبقى في الغرف المظلمة، بعيداً عن الاخرين والأعين. ان كانت الحربان العالميتان افرزتا العديد من الجواسيس الذين عرفوا طريقهم الى صفحات الروايات وافلام السينما قبل ظهور مسلسلات التلفزيون، فإن الصراع العربي- الاسرائيلي أخرج العديد من اعمال التجسس على الجانبين. نسمي القادم من عندهم بعد ضبطه طبعاً جاسوساً، ونسمي من يخترق البلاد التي اغتصبوها ويقوم بدور تجسس بطلاً. في مصر بدأت ظاهرة هذه الافلام في الستينات حيث قدم مخرج الحركة والإثارة نيازي مصطفى فيلمين هما: "العميل 77" و"الجاسوس". في الفيلم الاول يقوم فريد شوقي بدور ضابط شرطة عليه ان يكشف الدور الحقيقي لمجموعة من السينمائيين الاجانب الذين جاؤوا الى مصر بهدف تصوير احد الافلام، وهم في الحقيقة يقومون بالتجسس على بعض القواعد العسكرية. وفي الفيلم الثاني نجد ان البطل ليس ضابط شرطة ولكنه ضابط في الاستخبارات استطاع كشف شبكة تجسس تعمل لحساب اسرائيل زعيمها خبير بحري سابق في الدولة العبرية وتحت ادارته مصنع تُحف وادوات زخرفية في "خان الخليلي". تساعده مغنية تعمل في الملاهي الليلية تتصيد الشباب المجندين في القوات المسلحة وذلك من اجل الحصول على المعلومات المهمة منهم. وينجح الضابط البحري في الايقاع بشبكة التجسس. انعطافة حقيقية وكما يقول محمود قاسم في كتابه "جواسيس الادب جواسيس السينما"، فإن مثل هذه الافلام المتخيلة عن وقائع تجسس استمرت. وفي سنة 1978 قدم نجدي حافظ فيلم "اريد حباً وحناناً" ونادر جلال قدم "مهمة في تل أبيب" سنة 1993. وقدم علي عبدالخالق "بئر الخيانة" و"اعدام ميت". وكل هذه الافلام حاولت اللعب على اوتار الصراع بين مصر واسرائيل في مجال التجسس. تمت هذه الاعمال في زمن الحرب المصري - الاسرائيلي وعلى مشارف السلام. ومن خلال قصص متخيلة، لكن من الصعب القول إن عملاً منها اقام علاقة حقيقية مع الجماهير ودخل البيوت وتجول على المقاهي على رغم من حال التعبئة العامة للمجتمع المصري كله، ضد العدو الاسرائيلي. على أن هناك انعطافة حقيقية في الموقف من قصص التجسس لا علاقة لها بالصراع العربي - الاسرائيلي، ذلك انه عندما نشر نجيب محفوظ روايته "الكرنك" التي تحاول ان تدين مرحلة عبدالناصر من خلال بعض تجاوزات اجهزة الامن والاستخبارات في التعامل مع المثقفين. تحولت الرواية الى فيلم سينمائي، قامت ببطولته احب النجمات الى قلوب المصريين في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي سعاد حسني، التي حظيت بأهم ما يمكن ان يحصل عليه فنان، ألا وهو القبول من الناس. هذا الفيلم خلق اتجاهاً في السينما المصرية يمكن تسميته "الكرنكة". ذلك انه من عيوب السينما المصرية او ربما كان من مزاياها، انه ما إن ينجح فيلم حتى يتحول الى اتجاه في الانتاج. في مواجهة "الكرنكة" والإدانة شبه المطلقة التي اطلقها الرئيس السادات ضد اجهزة امن الزعيم جمال عبدالناصر وهي الحملة التي تجاوزت كل الحدود ولم تفرق بين الدور الذي قامت به الاستخبارات ضد اعداء الوطن، وبين تجاوزات الداخل. ان كانت قد وقعت مثل هذه التجاوزات، كان لا بد من تصرف يعيد للمخابرات المصرية وجهها القديم، وهكذا تم اللجوء الى اخراج بعض قصص البطولات الحقيقية التي قام بها ابطال مصريون ضد اسرائيل. البداية كانت في آب اغسطس سنة 1976، عندما نشرت سلسلة "روايات الهلال" مجموعة "الصعود الى الهاوية" للروائي صالح مرسي، وكانت القصة التي تحمل اسمها المجموعة حكاية حقيقية جرت في ارض الواقع فعلاً. البطلة الواقعية كانت هبة سليم، وعند تحويل هذه القصة الى فيلم سينمائي اعتذرت عن القيام بالبطولة نجمات ذلك الوقت في السينما المصرية: سعاد حسني، نجلاء فتحي، ميرفت امين، شمس البارودي، ونيللي. قامت مديحة كامل بالدور. بعد ان تغير اسم البطلة ليصبح "عبلة كامل". وقد ولدت شهرة هذه الفنانة من الدور الذي رفضته اكثر من فنانة اخرى، واصبح هذا الفيلم بمثابة شهادة ميلاد لها. بل ان العبارة التي قالها محمود يس - ضابط المخابرات في الفيلم - لمديحة كامل بعد إلقاء القبض عليها واعادتها الى مصر في طائرة خالية من الركاب الآخرين، وعندما وصلت الطائرة الى الاجواء المصرية "دي مصر يا عبلة"، تحولت الى "لزمة" من "لزمات" المصريين - بكل ما فيها - على بساطتها - من دلالات وطنية ومن شحنات عاطفية. بعدها عندما كان السلام بين الحكومة المصرية والحكومة الاسرائيلية، يسير ويتقدم، وكان رفض التطبيع، يزداد في الشارع المصري، اكتسب "جواسيس الحرب" شعبية وصلت الى عنان السماء. القول بجواسيس الحرب الذين خرجوا الى الوجود في زمن السلام المقصود منه ان هذه البطولات خرجت الى النور في زمن السلام، مع ان الاصوات التي تتناولها حكاياتها تمت على مشارف حروب عربية - اسرائيلية او في قلب هذه الحروب. الجديد في الامر ان القضية نقلت من السينما الى التلفزيون، وباستثناء فيلم عن "حكمت فهمي" التي تعود حكايتها الى الحرب العالمية الثانية و "48 ساعة في اسرائيل" فإن التلفزيون هو الذي تولى الامر كله. سوبر ماركت مسلسل "دموع في عيون وقحة" قُدم قبل نشر النص الادبي له، وهو يقدم بطلاً شعبياً مصرياً باسم "جمعة الشوان" مع ان البطل الاصلي اسمه: احمد الهوان وهو من ابناء السويس ولا زال على قيد الحياة بل بدأ هذه الايام يتردد على دور الصحف، ويطلب نشر صوره وعنوان "السوبر ماركت" الذي يمتلكه في احدى ضواحي القاهرة. ويقول انه كتب قصته الحقيقية بنفسه وسيحولها الى فيلم سينمائي يقوم ببطولته قريباً. ورغم ان صالح مرسي كان دقيقاً في تناول جزئيات حياته. ولم يغفل اية امور جوهرية. الا ان احمد الهوان يقول انه ما زالت لديه اسرار كثيرة. الفنان عادل امام عندما قام بدور جمعة الشوان لم يكن مجهولاً. كان له انجازه الفني الخاص، وكان قدم ملامح واسس مشروعه الفني. لكن يمكن القول ان هذا المسلسل اضاف الكثير الى شعبية ونجومية عادل امام، وساعده على الانطلاق كالصاروخ الى مستوى لم يحدث لفنان من قبل سوى لفاتن حمامة، في ايام تألقها. في الوقت الذي عرض فيه هذا العمل. من سيناريو وحوار لصالح مرسي، واخراج ليحيى العلمي، واداء عبقري لعادل امام، وصلت شعبية الاخير الى ذروة غير عادية. خصوصا مع المواقف الوطنية التي اتخذها هذا الفنان من هذه الفترة. على العكس تماماً جاءت رواية "رأفت الهجان" لصالح مرسي ايضاً والتي نشرت مسلسلة في مجلة "المصور" على مدى فترة زمنية تكاد تصل الى العام، ثم صدرت في ثلاثة مجلدات ضخمة وكانت مأخوذة عن عن قصة حقيقية ايضا لمواطن مصري من اهالي مدينة دمياط شمال الدلتا اسمه الحقيقي رفعت علي سليمان الجمال. وقد سمي في المسلسل "رأفت الهجان" ألا يعد الاسم على وزن جمعة الشوان؟، وهل ذلك صدفة؟!. جرى تحويل العمل الى مسلسل من 61 حلقة على ثلاثة اجزاء. وكان من المفروض ان يقوم ببطولة هذا المسلسل الفنان عادل امام. ولكن عند قراءة السيناريو اعترض عادل امام على بدء المسلسل من لحظة النهاية، ثم يحدث "فلاش باك" ويتم استدعاء الماضي. وقال عادل امام ان هذه البداية قاتلة. وأصر صالح مرسي على عدم اعادة كتابة السيناريو، وانسحب عادل امام، واسند الدور الى الفنان محمود عبدالعزيز، الذي قبله على الفور. وكان محمود عبدالعزيز قام ببطولة فيلم "إعدام ميت" من قبل، وهو يتناول ايضا موضوع الجاسوسية. "رأفت الهجان" تحول الى اسطورة حقيقية، خصوصاً ان ارملة رفعت الجمال وابنه ظهرا وحضرا الى مصر، بل ان الارملة تزوجت بعد ذلك من الممثل ايهاب نافع. ايضا فإن طول المسافة الزمنية التي استغرقها عرض المسلسل جعل الجماهير ترتبط بالبطل بصورة غير عادية. لكن "جراب الحاوي" لم يعد فيه الكثير. لأن صالح مرسي نفسه قبل وفاته وضع كتابا عنوانه: "نساء في قطار الجاسوسية" وهو عبارة عن قصص "تجسس" لا يربط بينها سوى ان من قمن بها نساء في اكثر من مكان من العالم. وفيلم "48 ساعة في اسرائيل" الذي انتج العام الماضي عاد بقصص التجسس الى المربع الرقم واحد، اي الى القصص المتخيلة، والتي لا تستند الى اصل واقعي، ولذلك فإن الثغرات فيه اكثر من ان تحصى. ولكن، وفي اطار الاحتفالات بمرور ربع قرن على حرب 1973، حصل إبراهيم نافع رئيس تحرير "الاهرام" على قصة جديدة، من ملفات المخابرات المصرية، تقدم البطولة بالسلب. حيث إن البطل هذه المرة تعاون مع الاعداء، وكل ما فعلته المخابرات المصرية انها تمكنت من ايصال معلومات من خلاله الى العدو، موّهت عليه، واخفت قرار وتحركات حرب اكتوبر، ثم القت القبض عليه في الوقت المناسب. وحكم عليه بالإعدام لكنه مات في سجنه قبل تنفيذ هذا الحكم. لقد تكلمت عن الماضي. وركزت على الممثلين الذين حصلوا على قدر من الشهرة من خلال القيام بأدوار تجسس ضد الاسرائيليين، ولكن الموقف الآن من الصعب قراءة مستقبله. او رسم تصور آت له، مع ان جواسيس ازمنة السلام قد يكونون اشد خطراً من جواسيس الحرب. لكن الانباء حملت من اسرائيل، ان رئيس وزرائها طلب تحويل قصص جواسيس اسرائيل لدى الدول العربية- وخصوصاً مصر وسورية - الى اعمال فنية تقدم قريباً حتى تشكل الرد على بعض ما يقدم في الدول العربية وان العمل قد بدأ في هذا الاتجاه. ونسي نتانياهو ان اهم جاسوسين له في الفترة الاخيرة مقبوض عليهما وصدر ضدهما حكم القضاء، واحد يقضي فترة العقوبة في اميركا، والثاني يقضي فترة العقوبة في مصر. الاول: بولارد حامل الجنسية الاميركية والذي ليس من حق اسرائيل المطالبة بتسليمه ولا حتى الإفراج عنه، والثاني: عزام عزام، الذي يقضي فترة العقوبة في ليمان طرة قرب القاهرة. ويحاول نتانياهو ان يتناسى ان البطلين المصريين اللذين نجحا في اختراق الواقع الاسرائيلي، احدهما مات في المانيا والثاني ما زال حياً يرزق. أي ان كلاً منهما قام ببطولته كاملة، من دون ان يتم اكتشاف امره. ولهذا كان من الطبيعي ان يخلد رفعت الجمال، الذي مات في المانيا، في مسلسل "رأفت الهجان". وان يتم تخليد احمد عبدالرحمن، الذي كان اسم الشهرة بالنسبة له "أحمد الهوان" في مسلسل "دموع في عيون وقحة" لان المهمة بالنسبة اليهما تمت وانتهت بنجاح تام. ان هذا في النهاية هو الفارق بين البطل صاحب القضية الوطنية. والجاسوس المعتدي على اصحاب الحق. ليست عندهم قضية. وليسوا اصحاب وطن، ولهذا فهم مجرد جواسيس لا بد وان ينكشف أمرهم. اما ابطال مصر فإن حجم الابداع والخلق في ما يقومون به كبير. لأن الدفاع عن الاوطان يعيد خلق الإنسان من جديد. * روائي مصري