بعد توقف معارك الفنادق في بيروت سنة 1976، برز قائد «المرابطون» ابراهيم قليلات كزعيم سني عرف كيف يوظف الإرث الناصري لخلق زعامة جديدة بدعم من «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين». وكان من الطبيعي أن تقلق عمليات التدمير الشامل التي اصابت منطقتي «القنطاري» والفنادق، الزعامات السنية المحافظة. ذلك أنها رأت في تجاوزات «المرابطون» وحلفائهم انتهاكاً للوحدة الوطنية ولمبادئ العيش المشترك. لذلك قام المرحوم تقي الدين الصلح بزيارة مفاجئة لمقر «المرابطون» حيث استقبله قليلات في مكتبه المزيّن بصور جمال عبدالناصر. وبعد نقاش طويل تناول حصيلة الأحداث الدامية، رفض قليلات الاعتراض على تجاوزات أنصاره، لأن الفنادق الفخمة في رأيه، تمثل صورة الاستعمار الغربي. عندئذ اضطر تقي الدين الصلح لأن يحدثه عن ايجابيات الميثاق الوطني الذي صان وحدة لبنان وحفظ النظام من مخاطر الانقسام واستقواء طائفة على أخرى. ولما شعر قليلات بأن منطق الصلح قد أفحمه، سارع الى اطلاق سؤال استفزازي بقصد إحراجه، قائلا: أنا يا تقي بك، أتكلم باسم المقاتلين... ممكن أعرف أنت باسم من تتكلم؟ و «عدّل» الصلح طربوشه مثلما كان يفعل عندما يستفزه النقاش، وأجاب: انا؟... أنا بتكلم باسم المقتولين. ونحن أكثرية! ليس هناك من وصف ينطبق على المشهد الانتخابي في لبنان، أفضل من الوصف الذي قدمه تقي الدين الصلح مطلع الحرب اللبنانية، خصوصاً أن صور الشهداء لدى الفريقين، تحولت الى يافطات انتخابية يستغلها المرشحون (587 مرشحاً) لإظهار عمق الخلاف ومساحة التباعد بين تيارين وموقفين ونهجين ومشروعين. في حديثها لصحيفة «فايننشال تايمز»، عبّرت المرشحة نايلة جبران تويني عن هذه الرغبة السياسية بالقول إنها تسعى الى إحياء الحلم الذي استشهد والدها من أجله. وفي ضوء هذا التعهد، ينشط سعد رفيق الحريري ووليد كمال جنبلاط وسليمان طوني فرنجية ونديم بشير الجميل وسامي امين الجميل وعمر كرامي وميشال رينيه معوض وإيلي ماروني، وسواهم ممن فقدوا والداً أو شقيقاً. وعليه أصبحت انتخابات 2009 مسألة بالغة الأهمية من حيث استقطاباتها السياسية وحجم التناقضات والانقسامات، واختلاط عناصرها المحلية بالمشاريع الاقليمية. وهذا ما يفسر الانتقادات الحادة التي واجهتها زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن للبنان الاسبوع الماضي، خصوصاً بعدما ربط مساعدات بلاده بهوية الحكومة الجديدة. ومع أنه ادعى الحياد في تعاطيه مع القوى المحلية، إلا أنه قيد برنامج المساعدات العسكرية بنتائج الانتخابات والحكومة المنبثقة منها. واللافت أن زيارة بايدن كشفت الى الرأي العام اللبناني البوصلة السياسية الجديدة التي سيعتمدها وليد جنبلاط في رحلته المستقلة المقبلة. فقد اتصلت به سفيرة أميركا ميشيل سيسون، لتقترح عليه استقبال نائب الرئيس في منزله بحضور قادة 14 آذار. وبعد أن أسمعها انتقاداً قاسياً بسبب توقيت الزيارة، اعتذر عن استقباله في منزله. وبعد انقضاء ساعة تقريباً عادت السفيرة لتلح في الطلب بناء على توصية واشنطن. وكرر جنبلاط رفضه، ثم سألها عن صاحب الاقتراح. ولما قالت له إن نايلة معوض هي التي عرضت الفكرة، أجابها انه على استعداد للقاء بايدن في منزل السيدة معوض في الحازمية. وهذا ما حدث. يُستدل من التصاريح التي أطلقها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، أنه في صدد القيام باستدارة سياسية تحله من الارتباط ب14 آذار، وتقربه أكثر فأكثر من «حزب الله». وقد شرح في مناسبات مختلفة، الأسباب الموجبة التي دفعته الى اتخاذ قراره الجديد، مدعياً أن التيارات الدولية والاقليمية هي التي فرضت عليه التراجع عن مواقف تبنّاها منذ سنة 2005. واختصر أسباب التراجع بالتقارب السعودي - السوري، وبالانفتاح الأميركي على ايران وسورية عقب وصول رئيس معارض لسياسة جورج بوش. كذلك يرى جنبلاط أن انتخاب حكومة يمينية في اسرائيل تهدد بالحرب وترفض التعاون مع واشنطن، هي مشروع نزاع طويل في المنطقة. لذلك اعتبر أن ما نشرته مجلة «دير شبيغل» حول اتهام «حزب الله» باغتيال رفيق الحريري، يدخل في خانة التشويش والتحريض، أخطر بكثير من بوسطة «عين الرمانة». وربط في التفسير الذي قدمه أثناء حفلة العشاء السنوي لمنظمة الشباب التقدمي، بين توقيت نشر «تقرير دير شبيغل» وتفكيك شبكات اسرائيل في لبنان. القيادة العسكرية في الجيش اللبناني تحتفظ بالسر الذي قادها الى اكتشاف عملاء اسرائيل الذين زرعوا في مواقع حساسة بعد حرب صيف 2006. وربما توقعت حكومة نتانياهو من المجلة الألمانية التي عُرفت باتجاهاتها المؤيدة لليمين الصهيوني، أن يحدث الخبر الذي افتعلته ضجة تقلل من حجم الاساءة ل «الموساد». ويبدو أن الصدفة التي قادت إلى اكتشاف أديب العلم، هي التي عطلت خطة الاغتيالات والاشتباكات التي راهنت عليها الاستخبارات الإسرائيلية. وقد توقعت صحيفة «هآرتس» قبل مدة، احتمال حدوث أعمال إرهابية في لبنان تؤدي إلى اشتعال جبهة الجنوب. كذلك علقت جريدة «يديعوت أحرونوت» على ما عرضه اللواء قائد المنطقة الشمالية غادي آيزتكوت، من أن سيطرة «حزب الله» على لبنان تشكل أفضل سيناريو لتبرير هدم الضاحية الجنوبية وكل البنى التحتية الخاصة بالدولة، بدءاً بالمطار وانتهاء بمبنى وزارة الدفاع. ويستنتج من مراجعة الكتاب الذي أصدره البروفيسور ايال زيسر، رئيس مركز دايان في جامعة تل أبيب، أن إسرائيل تتطلع إلى انتخابات الأحد المقبل في لبنان، كفرصة لانتصار «حزب الله». ويعكس هذا الكتاب وعنوانه «دم في أرز لبنان»، افكار المؤسسة العسكرية. ويقول في المقدمة: «بالقدر الذي تصبح فيه منظمة «حزب الله» قوة رائدة في لبنان، فإن من شأنها أن تسعى إلى احلال تغيير وجه هذه الدولة من الأساس، سواء من خلال الكفاح العنيف، أم من خلال الكفاح السياسي الذي يُدار بأساليب ناعمة ويحسم في الانتخابات. إن اسرائيل قد تجد نفسها أمام واقع أمني وسياسي جديد على حدودها الشمالية بعد 7 حزيران (يونيو). وفي مقال كتبه شمعون شابيرا، مؤلف كتاب «حزب الله بين لبنان وإيران»، قال فيه إن الحزب دعا إلى سن قانون جديد للانتخابات يؤدي إلى تغيير المعادلة الحالية، وإلى زعزعة النظام الحزبي الذي أُتفق عليه سنة 1943. ويرى هذا الكاتب أن الهدف من دعوة التغيير، هو إقامة دولة إسلامية تمثل سياسياً غالبية الشيعة، تبسط السيطرة النهائية لإيران على لبنان. والمؤسف، أن عدداً كبيراً من مرشحي 14 آذار، يستخدم هذه «الفزيعة» لتخويف الناخب المسيحي أو السني بهدف انتزاعه من تجمعات ميشال عون. والمؤكد أن هذا الأسلوب قد ازعج رئيس كتلة الاصلاح والتغيير النائب ميشال عون، الذي بادر إلى نفي كل ما قيل عن دعوته إلى تقصير مدة رئيس الجمهورية، أو الحكم بالمثالثة. ولكن نفيه لم ينف من أذهان الناس ما قاله عن «ازدواجية» مواقف الرئيس، وعن تدخل البطريرك الماروني نصرالله صفير في الانتخابات، الأمر الذي يعتبره خصومه مصادرة إعلامية لموقعي الرئيس والبطريرك. أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، شارك في نفي هذه الادعاءات، وأكد في خطابه الأخير: «أن الحزب يقف مع الدولة الواحدة المقتدرة التي لديها حكومة قوية ومجلس نيابي قوي وسلطة قضائية وجيش وأجهزة أمنية قوية». جماعة 14 آذار تقول إن ما حصل يوم 7 أيار يمكن أن يتكرر بدليل أن ضرب المسلمين والمسيحيين والدروز، أصبح يوماً مجيداً من أيام المقاومة. وهي ترى أن افتعال الأحداث الأمنية بناء على الشكوك والظنون يمكن أن يتكرر، خصوصاً أن الدولة التي يريدونها قوية لم تحرك ساكناً لحماية مواطنيها. يقول المصرفيون في لبنان إن الاشاعات التي رافقت الحملات الانتخابية حول احتمالات تغيير النظام في حال فاز تيار 7 آذار بالغالبية، قد أثر على برنامج السندات. وهم يؤكدون أن اهتزاز الثقة، فرض على عدد كبير من المستثمرين العرب والمهاجرين، تجميد عمليات شراء سندات الخزينة بالعملة اللبنانية الى ما بعد الانتخابات. والمعروف أن المصارف اللبنانية تحتفظ بنحو 76 بليون دولار، منها 25 بليوناً ودائع للقطاع الخاص. في احتفال أقامه اتحاد بلديات قضاء جبيل في مناسبة مرور سنة على انتخاب الرئيس، قال العماد ميشال سليمان، إن لبنان سيبدأ يوم الثامن من حزيران يوماً جديداً. ثم وصف هذا اليوم الجديد ببداية ورش الاصلاح في الإدارة والقضاء، في الاقتصاد والسياسة، في اللامركزية الإدارية وبرنامج الإنماء المتوازن. وتناول الرئيس سليمان موضوع صلاحياته وصلاحيات سواه، فقال: «أما الاصلاح السياسي فهو توزيع على من وكلهم الشعب إدارة شؤونه، أولهم رئيس الجمهورية حامي الدستور وعليه تقع تبعة الحفاظ على الدستور وحمايته. المطلوب من رئيس الجمهورية التوافقي والتوفيقي ليس إدارة التوازنات، انما بلورة الحلول المتوازنة وفرض قيامها والحسم دائماً لمصلحة الوطن الواحد. إن الحفاظ على روح الطائف والدستور هو واجب الجميع وحق هذا الوطن علينا. ان الغاء الطائفية السياسية لا يعني الغاء الطوائف. لا مكان في الميثاق للمثالثة، بل للمشاركة الكاملة في الحفاظ على وطن الأرز». يرى بعض النواب ان خطاب الرئيس سليمان يمكن تطويره مع خطاب القسم، ليشكلا معاً برنامجاً لمرحلة السنوات الخمس الباقية. وربما وظف المناسبة ليعلن للمشككين بقدرته السياسية، انه هو الحكم والحاكم ايضاً. وعليه يرى أن المرحلة الصعبة المقبلة تقتضي منه الحفاظ على الأمن الداخلي وسط الانقسامات الاقليمية والدولية. أي الانقسامات التي واجهتها سورية والسعودية والأردن بالتضامن ووقف شحنات التحريض، بانتظار بلورة المشروع الأميركي الجديد. أي مشروع انهاء الحروب الاقليمية في الشرق الأوسط وآسيا عن طريق ايجاد حلول عادلة لنزاعات استمرت أكثر من ستين سنة. في مواجهة هذا المشروع، تستعد حكومة نتانياهو لافتعال حرب ضد ايران قد تنقذها من أعباء الضغوط السياسية التي تمارسها عليها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا أيضاً. وهي تعتمد في حساباتها على مخاوف الدول العربية من الهجمة الايرانية التي وصفها الرئيس محمود أحمدي نجاد، بأنها محاولة لمساعدة الدول الكبرى على تنظيم السلام العالمي. ومن المؤكد أن المعركة العسكرية المقبلة تنتظر انتخابات 12 الجاري في طهران... تماماً مثلما ينتظر اللبنانيون نتائج المعركة الانتخابية يوم 7 الجاري من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي! * كاتب وصحافي لبناني