رد فعل غير مسبوق لأزمة غير مسبوقة. ذاك هو التحدي الذي فرض نفسه على قاعدة المجتمع المالي العالمي عند اجتماعهم في واشنطن الشهر الماضي لحضور الاجتماعات السنوية المشتركة لصندوق النقد والبنك الدوليين. وكان بعض المراقبين يحاول البحث عن حلول عاجلة للاضطراب الذي اجتاح الاقتصاد العالمي وامتد كانتشار النار في الهشيم من منطقة اقليمية الى أخرى، مهدداً بالاطاحة بعقود من التقدم الذي تم احرازه في تحسين أحوال المعيشة، في الوقت كان يترقب فيه البعض الآخر اتخاذ تدابير جريئة ومبتكرة لضمان عدم تكرار حدوث أزمات مماثلة في المستقبل، وسرعة ايجاد حلول عاجلة للأزمات التي تقع. وبشكل أساسي، كان المطلوب من هؤلاء القادة اطفاء نيران الأزمة واصلاح النظام النقدي الدولي في آن. أي انه كان عليهم القيام بدور رجال الاطفاء والمهندسين المعماريين في الوقت نفسه. وكيف يتسنى تحقيق ذلك؟ في الواقع، لم يكن هناك نقص في الأفكار، فلقد دارت مناقشات ثرية مليئة بالأفكار، عكست الدروس التي ما زلنا جميعاً نستخلصها من الأزمة الآسيوية. ولكن في النهاية، كانت الحقيقة هي أنه لا توجد حلول سحرية. ولكن ما تمخضت عنه هذه الاجتماعات كان هدفاً مشتركاً، وتصميماً غير مألوف للقضاء على هذا "الفيروس" الاقتصادي المميت، ومساعدة الاقتصاد العالمي على العودة الى التمتع بدوام الصحة والنمو. ذلك أن الأزمة ليست في جذورها مجرد أزمة تمر بها البلدان، ولكنها أزمة تهز النظام الاقتصادي والمالي بأكمله، وهو نظام لم يتكيف بعد بالقدر الكافي للاستفادة من فرص العولمة وتجنب مخاطرها. وطوال فترة انعقاد الاجتماعات السنوية، لم يكف المشاركون عن بحث قضايا الشفافية، وايجاد معايير مقبولة دولياً، ونظم مالية سليمة، والتحرير المنظم من القيود، واشراك القطاع الخاص، وهي القضايا التي ترددت أصداؤها خلال ما دار من مناقشات. استطاعت منطقة الشرق الأوسط، حتى هذه اللحظة، الإفلات الى حد كبير من الآثار المباشرة لانتشار الأزمة، على رغم ما يشكله الانخفاض الحاد في أسعار النفط من تحد رئيسي متزايد لما تقوم به البلدان المصدرة للنفط من جهود للتصحيح. وبالرغم من استفادة البلدان المستوردة للنفط من هبوط أسعاره، فقد يتعين على بعضها التأقلم مع انخفاض معدلات الاستثمار وضعف تحويلات مواطنيها العاملين في الخارج. ولكن، كما يدفع البحر عند ارتفاعه بكل السفن الى السطح، فإن العكس أيضاً صحيح، فها هي التوقعات التي تشير الى تباطؤ الاقتصاد العالمي بدأت تقلص بالفعل التوقعات الخاصة بالنمو في الشرق الأوسط. فما هي إذن الخطوات التي اتفق عليها قادة العالم المالي لمنع عدوى الأزمة من اطلاق شرارة الركود العالمي؟ البلدان الصناعية: فيما يمثل تحركاً رئيسياً على صعيد السياسات، أجمع ممثلو البلدان الصناعية بعد اجتماعهم السنوي على ضرورة تنشيط النمو. فقد أقدمت الولاياتالمتحدة على خفض أسعار الفائدة مرتين خلال الأسابيع الماضية، في الوقت نفسه الذي تواصل أوروبا سعيها لخفض أسعار الفائدة الى المستويات المسجلة في فرنسا والمانيا. أما اليابان، فقد انتهت لتوها من سن تشريعات مصرفية حاسمة، وأكدت من جديد التزامها تخفيض الضرائب والانفاق العام. أما بلدان الأزمة فقد أكدت عزمها على مواصلة وتعزيز السياسات الاقتصادية الكلية وبرامج التصحيح الحالية، أملاً في التصدي بشكل أفضل لتدهور أوضاع البيئة الخارجية. أما وقد تم تثبيت أسعار الصرف، وتخفيف حدة أسعار الفائدة والسيطرة على التضخم، وتحقيق فوائض في الحسابات الجارية، فقد بات من الضروري الآن التركيز على الحد من فداحة تكاليف الأزمة على الموارد البشرية، من خلال اتخاذ اجراءات تتضمن استخدام سياسة المالية العامة، الى جانب اجراءات أخرى، في دعم شبكات الأمان الاجتماعي والاستثمار في قطاعي الصحة والتعليم. وأكدت البلدان التي تكافح العدوى، من جهتها، رغبتها، قبل كل شيء، في مقاومة اغراء الاستسلام للخيارات الجذابة في ظاهرها والتي تهدف الى إرضاء التيارات الشعبية الغالبة، كتأجيل سداد الديون من جانب واحد والقيام بتطبيق تدابير حمائية. ولكنها اتفقت بدلاً من ذلك على ضرورة تعزيز قدرتها على التنبؤ بحدوث المصاعب في المستقبل، والاستجابة السريعة لها، واتباع سياسات اقتصادية سليمة. ويجب أن تتمكن هذه البلدان من التعويل على الحصول على مساندة المجتمع الدولي لجهودها، وكان صندوق البنك الدولي أعلن، من ناحيته، عن استعداده التام لتقديم المساعدة، كما يتضح من اتفاق المساندة المالية الذي يقوم الصندوق حالياً باتمامه مع البرازيل وهو اتفاق من شأنه المساعدة على تبديد شبح أحد العناصر الرئيسية لعدم اليقين الذي يحوم حول الأسواق العالمية. وأكد المجتمع الدولي من جديد تأييده زيادة الموارد المالية لصندوق النقد الدولي حتى يتمكن من مواصلة أداء مهمته. وكان الكونغرس الأميركي اقترح بعد انتهاء اجتماعات واشنطن، الموافقة على تمويل صندوق النقد الدولي، وهو ما كان يعتبره من القضايا الشائكة. وشكل هذا، في التحليل الأخير، علامة تشير الى الاجماع على عمق الأزمة العالمية وضرورة قيام الولاياتالمتحدة بتحمل مسؤولياتها تجاهها. كذلك سيؤدي هذا الاجراء الى تحرير التدفقات التمويلية من البلدان الأخرى، بحيث يتم وضع 90 بليون دولار أميركي تقريباً تحت تصرف الصندوق لمواجهة الأزمات في المستقبل. ويتعين علينا أن نعجل بتأمين التمويل اللازم لتجديد موارد التسهيل التمويلي المعزز للتصحيح الهيكلي "إيساف" المخصص لتقديم القروض الميسرة، حتى نتمكن من دعم عملنا في اطار تسهيل "ايساف" ومبادرة "هيبيك" الخاصة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون. إذا انتقلنا الى استشراف آفاق المستقبل، ما الذي يمكن القيام به لبناء نظام نقدي دولي أكثر قوة؟ هنا، انصب تركيز القادة المجتمعين في واشنطن على مجموعة من التدابير المختلفة التي تنطوي على تغييرات في نهج الرقابة والانضباط الذاتي في البلدان الأعضاء، وتغيير طريقة التفاعل بين البنوك والمقترضين، وسلوكيات الأسواق المالية، وأسلوب عمل صندوق النقد الدولي، وطريقة التفاعل بين الهيئات المتعددة الأطراف مثل الصندوق والبنك الدوليين. وتشمل هذه التدابير العناصر الرئيسية التالية: - زيادة الشفافية في القطاعين العام والخاص، باعتبارها المفتاح المؤدي الى قيام صانعي السياسات باصدار قرارات أفضل احاطة بالمعلومات اللازمة، وجعل المستثمرين يتخذون قراراتهم على أسس أكثر حكمة، وتمكن الصندوق من أداء دوره في تعزيز الشفافية عن طريق زيادة كم المعلومات التي ينشرها على الجمهور. - وضع معايير جديدة للإدارة السليمة في قطاع الشركات والقطاع المالي. - قيام الحكومات الوطنية والهيئات المتعددة الأطراف بتحليلات أكثر عمقاً للسياسات الاقتصادية حتى يتسنى لها التصدي للمشكلات قبل أن تتحول الى أزمات. - الالتزام باصلاح القطاع المالي للوصول بالأسواق والأجهزة المصرفية الى مستوى تطبيق المعايير الدولية، وتمكين البلدان من التكيف وفقاً لما تمليه المتطلبات المعقدة للسوق العالمية. - تحرير تدفقات الحساب الرأسمالي بخطوات تتسم بالحكمة والتزام الحيطة والحذر في ظل السياق الملائم، وهو ما من شأنه تحقيق أقصى استفادة من المزايا والتقليل الى أدنى حد من مخاطر الحركات الحرة لرؤوس الأموال. - ضرورة اشتراك القطاع الخاص في وضع الخطط الكفيلة بمنع حدوث الأزمات في المستقبل، ومواصلة قيامه - على أساس طوعي وتعاوني - بحل ما قد يتفجر من مشكلات مستقبلاً. تشكل هذه التدابير جدول أعمال طموح يحتاج تنفيذه الى شهور وسنوات. ومع ذلك، فهو يبشر بالقضاء على ما يستجد من نوبات للعدوى وببناء نظام نقدي دولي أكثر قدرة على البقاء، نظام يمكن للشرق الأوسط الاعتماد عليه في مساعيه الراسية الى تبوؤ المكانة الجديرة به في الأسواق العالمية. * مدير قسم الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي، واشنطن.