مع قهوة الصباح يضخ التلفزيون الروسي برامج وتعليقات تشجب "العداء للسامية" ويستمر بثها نهاراً وليلاً على كل القنوات، حتى أن المتابع ينسى أن في روسيا أزمة اقتصادية مستفحلة ومعضلات مالية كبرى وجوعاً يدق الأبواب ويهدد وجود الدولة. والشرارة التي اندلع بسببها الحريق انطلقت بدعوة الجنرال البرت ماكاشوف الى أن يكون توزيع المناصب في الدولة مكافئاً لنسبة تمثيل القوميات في روسيا، إذ ان اليهود الذين يشكلون أقل من واحد في المئة يسيطرون بالكامل تقريباً على المؤسسات المالية والشبكات الإعلامية ولهم زهاء 40 - 50 في المئة من المقاعد في الديوان الرئاسي والعديد من الهياكل الحكومية. ورغم ان هذا الاقتراح يمكن أن تفوح منه رائحة عنصرية منفرة فإنه من جهة أخرى يعبر عن استياء أعداد كبيرة من الروس الذين يشعرون بالاحباط والغضب حينما يعرض التلفزيون "الروسي" خنزيراً كتب عليه "روسيا" أو بقرة مرفوع ذيلها ومعروض على الراغب أن "يدخل في عمق روسيا". والغريب ان وسائل الإعلام التي ثارت ثائرتها على ماكاشوف لا تجد غضاضة في عرض أفلام وبرامج تظهر المسلم ارهابياً متعطشاً للدماء، هذا في بلد يقطنه مليون مسلم. ومن ابتلاه الله ببشرة سمراء كتب عليه أن يحمل معه وثائقه الشخصية كاملة ليبرهن لكل شرطي يلقاه في شوارع موسكو أنه لا ينوي تفجير الكرملين، وغدا تعبير "السحنة القوقازية" كناية تحقيرية شائعة عن السمر. والرئيس بوريس يلتسن لم يصدر بياناً يستنكر فيه هذه الظاهرة إلا أنه اعتبر موقف اجهزة حفظ النظام "اجرامياً" لأنها لم تحرك ساكناً اثر صدور تصريحات ماكاشوف اياها. وعلى الفور بدأت اجراءات مقاضاة الجنرال واصدر الدوما قراراً يستنكر اثارة الحزازات القومية. وغدت عضوية ماكاشوف في الحزب الشيوعي حجة للدعوة الى منع هذا الحزب الذي يملك أكبر كتلة برلمانية. والغريب ان الدعوة أطلقها البليونير اليهودي بوريس بيريزوفسكي وهو حالياً الأمين التنفيذي لرابطة الدول المستقلة، وكان قبلها مواطناً اسرائيلياً شغل في حينه واحداً من أخطر المناصب في روسيا عندما عين نائباً لسكرتير مجلس الأمن القومي رغم جنسيته المزدوجة. ولبيريزوفسكي "ثارات" مع جهات عديدة، وفي مقدمها يفغيني بريماكوف الذي عين رئيساً للحكومة بدلاً من فيكتور تشيرنوميردين الذي كان البليونير اليهودي، مالك الامبراطورية الإعلامية، وراء الدعوة لإعادته الى المنصب. ويستنتج المراقبون ان زعزعة مواقع الوزارة تمهيداً لاطاحتها واحد من أهداف الحملة الحالية. وثمة غرض آخر هو تقويض التحالف المحتمل بين اليسار ومحافظ موسكو يوري لوجكوف الذي يعد من أقوى المرشحين للرئاسة، واضطر الى استنكار موقف الحزب الشيوعي لرفضه رفع الحصانة عن النائب - الجنرال. وبذا حقق بيريزوفسكي هدفاً مهماً بعزل مجموعات انتخابية واسعة عن عدوه اللدود لوجكوف. وكما لا يصح عرس من دون ملبس، فإن اسرائيل ما كان يمكن ان تلتزم الصمت ودعت الى اتخاذ "اجراءات عاجلة" لوقف ما وصف بالعداء لليهود. ولكنها من جهة أخرى قالت على لسان وزير التجارة والصناعة ناثان شارانسكي انهم اليهود لن يتعرضوا الى أي مضايقات إذا... قرروا الهجرة الى اسرائيل. كل ذلك يوحي بوجود خطة مدروسة ومعدة باتقان، والنفخ في بوق "العداء للسامية" ظاهرة معروفة منذ قرون، لكن الحملة الأخيرة يمكن أن تؤدي الى نتائج معاكسة وترفع أخيراً "التابو" المفروض على مناقشة القضية اليهودية في روسيا، وقد علق ماكاشوف الجرس.