ليلاً تركت زجاج النافذة مفتوحاً، ربما نادتني، فأخرج اليها، سندت رأسي أعبىء غرفتي الصغيرة بالدخان الذي سحبني وراءه الى بيت صديقة في رأس النبع، غادرت في الطلقة الأولى، خبأت أشعارها في حديقة منزلها، زرعتها بين الزهور، ربما فاحت رائحة الورد شعراً، وغادرت نحو الطائرة، حاملة حقيبة السفر ودفاتر ما زالت بيضاء، اخبرتني مرة انها سترسل وجعها بين الجولة والاخرى، وكانت كلما هدأت اتلقى رسالة مطولة، تطالبني فيها ان أزور حديقة منزلها، وأسقي ورودها، ولما انتهي أجلس على الدرج الرخامي أتابع قراءة ما وقع من الاحرف والكلمات على عتبة البيت أو ما حوله، أخاطر في الحضور، ربما يبست الاشعار وقسا القلب، تلك ذكريات تحضر عندما تتداخل مع الامكنة والاشياء، والصبية كأنها ما زالت أمامي، تهرب مني تغلق الباب عندما تراني، فأدخل من النافذة، تسد الطريق، وتعرف ان هزيمتها بعد المطاردة واقعة فأين المفر! وتخرج الى الحديقة مستسلمة تجالس ورودها، تحادثني عن أحلامها، وأنا أحدق في سواد عينيها، ولم أدرك ان الخسارة واقعة، إلا بعد ان جاءني الخبر، الصبية في مستشفى الجامعة الاميركية، وان الإصابة ملعونة، وعليها متابعة العلاج في الخارج، كانت ممددة مغطاة القدمين حالما رأتني، صرخت طالبة اخراجي من الغرفة، عدت أدراجي وجلست في الصالون، فحضرت اختها وراحت تطيب خاطري، فهمت الحكاية، وخرجت... جاءت الرسالة مع مفتاح البيت المغلق، اعتذار تلو الاعتذار والقدمان ضاعتا في احدى الجولات، هربت العائلة مع أفرادها، حملوا ابنتهم الى فرنسا. الوردة كالصبية، أخاف عليها، داعبت ورود حديقتها، وجلست في المكان عينه، حين كانت تنتهي مطاردتي لها، تجلس منهوكة القوى وتتوسلني: دعني أرتاح، لقد تعبت. لا أظن انها تقصد الحرب، بل مشاغبتي وحركاتي الطائشة، تطلب مني الاستماع الى آخر قصيدة نسجتها، وبدل ان استمع اليها، كنت أراقب حركة شفتيها، تسريحة شعرها، تمايل عنقها الطويل، لون عينيها العسليتين، نبرة صوتها الحنون، وعندما تنتهي كنت أحثها على الكتابة مجدداً... حين حطت في الغربة، فاضت دموعها... تعارفنا قبل الساعة الاخيرة من الحرب، ونسينا ما تكتبه الصحف ولما وصلتني الاحرف الاولى فضضتها بسرعة وقرأت: أخبرني يا صديقي، كيف هي بيروت، أخبرني عن القرميد الاحمر، ما زال صامداً، أجبتها ان الطيور حمته من وحشة القذائف، فاطمأنت ومن غرفتها المطلة على ضوضاء باريس، جلست على كرسيها المتحرّك، تتذكر انكسار التلاقي عند درج منزلها...