سألت صديقة من تعجبها من الممثلات. قالت لورين باكال. فدهشت. ثم سألتني من تعجبني من الممثلات. ولما ذكرت أودري هيبورن، قالت أوه! أنا لست معجباً بممثلة معينة. ولست أدري لماذا ذكرت أودري هيبورن، مع أنني بقيت معظم سنوات شبابي وكهولتي أحمل إعجاباً لفيفيان لي. ثم لم تعد ممثلة بعينها تحظى بإعجابي. لكن موضوع لورين باكال لفت اهتمامي. أنا لم أكن أتصور أن هناك امرأة يمكن أن تشبهها. فهي لها فيزيونومية غريبة جداً تجعلها تبدو مختلفة عن كل النساء. هل كانت جميلة؟ نعم، لكن بصورة غريبة. ثم إنني لم أكن معجباً كثيراً ببحة صوتها، مع أن هذا كان من بين محاسنها في رأي الكثيرين. لورين باكال لم تكن تعجبني كثيراً، ربما بسبب بحة صوتها ذات اللمسة الجنسية. أيام صرت أفكر في الزواج، بعد أن تخليت عن قراري المضاد للزواج، أخبرني صديقي الدكتور (ن.س.) إنه يفكر في أن يرشح لي فتاة من مدينة بعقوبة تشبه لورين باكال. هي تراجعه في شأن مرض جلدي يزول ويعود في فترات مختلفة، بسبب اضطرابات نفسية. وهي لا تزال في المرحلة الثانوية من دراساتها، وتقرأ كتاباتي. كنت أنا يومذاك أكتب في الصحف والمجلات. واقترح أن أزور عيادته عندما تراجعه. وذكر اسم عائلتها، وهو معروف لدي. لم أكن متحمساً للموضوع. فتاة لا تزال بالمرحلة الثانوية، ما الذي يجمع بيني وبينها؟ لكن الفضول استبد بي لرؤيتها، إذا كانت تشبه لورين باكال. التقينا في عيادته. وقام بتعريفنا. ذهلت حين وجدتها تشبه لورين باكال. لكن في وجهها حباً ناعماً هو سبب مراجعتها صديقي الدكتور. ابتسمت لي وقالت: «أنا أعرفك من خلال كتاباتك». «وهل خاب ظنك فيّ الآن؟». ضحكت، وقالت: «لا، مع أنني لم أكن أتصورك هكذا». ثم قالت: «الدكتور ن. معجب جداً بك، وحبذ أن أراك». «مثلما حبذ أن أراك». كان هناك فارق واضح في السن بيننا. لكنها كانت تشبه لورين باكال إلى حد كبير، باستثناء الحب الذي في وجهها. ودار بيننا حديث عن الأدب. هي تحب القراءة ولديها محاولات في كتابة الشعر. فنصحتها بأن تتخلى عن هذه المحاولات. سألتني مندهشة لماذا. قلت لها: «لأنك لن تضيفي شيئاً إلى العدد الهائل من محاولي كتابة الشعر. جربي كتابة النثر». واقترح صديقي الدكتور أن يدعونا إلى منزله لشرب الشاي ولنواصل هذا الحديث. وبعد أن بارحت العيادة، سألني عن رأيي فيها. فقلت له: «لست أدري». «لكنني لا أريدك أن تفوت هذه الفرصة، إنها لورين باكال». قلت له: «لو كانت فيفيان لي لما ضيعت هذه الفرصة!». التقينا في بيت الصديق (ن). كان ذلك عصر يوم جمعة. كانت هي بسيطة في تأنقها، ولم تستعمل الماكياج، كأي عذراء، ربما باستثناء أدهان خفيفة على الوجنتين. وقدمت لنا أخت الدكتور (ن) شاياً وكيكاً، ولحماً بعجين. كانت الأجزاء الأربعة من رواية «الدون الهادئ» موضوعه على نضدٍ في الغرفة. أراد الدكتور أن يجعل منها جواز مرور إلى قلب أو عقل اخته، «ولورين باكال». اسمي كان الأول من بين أسماء مترجمي الكتب الثلاثة، مع أنني لم أستحق هذا التكريم. أنا كنت معجباً بأخت الدكتور (ن) أكثر من «لورين باكال»، لأنها تحمل شهادة الماستر من الاتحاد السوفياتي، ولديها بشرة كالحرير. أخوها لم يفاتحها بإعجابي، بل اكتفى بتقديم أوراقي كمترجم، طبعاً وكاتب. لكن أخوات الدكتور (ن) يعجبهن من يملكون ثروة. وأنا كنت أجالس «لورين باكال» وقلبي مع أخت الدكتور. ودار حديث بيننا عن الشعر والنثر. بدأته «لورين باكال» متسائلة، أيهما أجمل. ووجد الدكتور (ن) هذا الموضوع شيقاً، وأحب أن يسمع رأيي فيه. وأنا وجدت هذا الموضوع مسلياً ومثيراً للفضول كحديث مع فتاة. والغريب أن اسمها كان خولة، واسم أخت الدكتور (ن) كان خولة أيضاً. وأنا لا أفتعل هذا التطابق في الاسمين، بل هو حقيقي. كان الدكتور (ن) يريدني أن أبهر الخولتين بحديثي. قلت: أنا لست من فريق الشعراء، ولا أريد أن أكون كذلك. الغريب أنه أصعب، ربما «أرفع» من النثر، لكن كل مبتدئ لا يبدأ حظه في الكتابة مع النثر، بل مع الشعر. وأنا لم أشذ عن هذه القاعدة. لكنني أدركت «ضلالي» منذ محاولاتي البكر. النثر أوقيانوس من اللذة، أما الشعر فليس أكثر من قوس قزح. هذ لم يغير من واقع أنني مدرس في عيني خولة شقيقة الدكتور (ن). الشعر، النثر، رواية «الدون الهادئ»، شيء جميل، لكنه ضباب. أما «لورين باكال» فقد سألتني: «ألا يعجبك قوس قزح، أستاذي؟». بالطبع، مثلما يعجبني قول امرئ القيس: «مكر، مفر، مقبل مدبر معاً/ كجلمود صخر حطه السيل من عل». ومثل قول بابلو نيرودا: «يا أقارب المطرقة». هذه أشياء تطربني، لكنني أجد سعادة هائلة في قراءة النثر، الرواية مثلاً. قالت: «لورين باكال»: كنت أفكر في أن أريك نموذجاً من محاولاتي، لكنني سأحجم، لأنك تخيفني! «آه،» قلت أنا «أنت لا تخافين مني، بل من نفسك، ومن محاولاتك، كم هي مقنعة، أو واعدة؟». وأعطتني ورقتين من أوراق دفتر. سألتها: «هل تريدين أن أقرأها الآن؟». «لا»، قالت بتضرع. لم تكن شيئاً مذهلاً طبعاً. ولم يتم الاقتران بيننا. كانت هي مترددة، وأنا كنت متردداً. لكنها بقيت تتابع أخباري. وتزوجت أنا. وكان الدكتور (ن) واسطة زواجي. طلب من صديقته هناء أن ترشح لي زوجة. فرشحت فتاة حقوقية تعمل في وزارة الإصلاح الزراعي. قالت هناء إنها مثقفة، وكانت ناشطة سياسية من جماعة ق. السامرائي. كنت أنا يومذاك مستقيلاً بعد أن تم إبعادي عن عملي في وزارة التربية. ورضيت بي لأنني كاتب. وكانت قارئة من الطراز الأول، وتشاركني في سماع الموسيقى ليس عن مجاملة. ذات مرة بقيت تسمع معي كل أوبرا (تريستان وايزولدة) لفاغنر أكثر من أربع ساعات. أنا كنت أبحث عن زوجة كهذه. وأعطتني كلاماً بأن لا تطالبني بالإنجاب. أنا كنت أفكر في أن أنجز شيئاً أهم من الإنجاب. وكتبت (الأطروحة الفنطازية)، التي اعتزت بها زوجتي كثيراً. وصارت تتباهى بها وبي. وبعد مرور سبع سنوات جاءني نداء من «لورين باكال». سألتني إن كان في وسعها أن ترى بيتي. بقيت حتى ذلك الحين غير متزوجة. فاتفقت معها على مكان أقلها منه في سيارتي إلى بيتي. كانت زوجتي في الدوام، وكنت أنا أدرّس بصورة متناوبة بين الصبح والظهر. التقينا صباحاً أمام معرض بغداد الدولي. لمحتنا جارتنا عندما ترجلنا من السيارة. أدخلتها من باب الكراج. زاد وزنها قليلاً، وكان الحب ما يزال في وجهها. نقّلت بصرها في أرجاء المطبخ. واجتزنا الكوريدور لنتخذ مقعدينا في غرفة الجلوس التي تشبع فضولها أكثر من غرفة الاستقبال. كانت تعتبر بيتي بيتها الضائع. قالت لي: «هذا بيتي الذي احتلته ب». ابتسمت، وقلت لها: «هل أنت نادمة، خولة؟». جداً، وها أنت ترى أنني لم أتزوج». «ماذا تحبين أن تشربي؟». «شاياً، لكنني سأعده أنا، لك ولي. لكنني قبل ذلك أريد أن أرى غرفة نومكما». ورافقتها إلى غرفة النوم، كان بابها مفتوحاً. وكانت نافذتها الخلفية تطل على الحديقة، ويظللها متسلق الياسمين. فتحت الشباك وقطفت زهرة ياسمين. «هل أستطيع أن أجلس؟». «نعم». وجلست على حافة سرير الزوجية، ومسدت على الشرشف. قالت: «لماذا ضيعتك؟». «لكننا سنبقى صديقين». «هل أنت سعيد مع ب؟». «ما هي السعادة خولة؟ ألن نشرب شيئاً؟». «سأعد الشاي. تعال معي إلى المطبخ». كنت أعلم أن جارتنا ستراني معها، لكنني لم أحب أن أجرح خولة. فذهبت معها الى المطبخ. وسألتني ماذا أفعل مع زوجتي في أوقات الفراغ، فقلت لها إننا نسمع الموسيقى. «هل أستطيع أن أسمع الموسيقى الآن؟». «نعم، خولة». «ماذا ستسمعني؟». «ماذا يعجبك؟» «أسمعني شيئاً من اختيارك». أسمعتها مقطعاً موسيقياً من «أوبرا عايدة»، فبكت، وقالت: «خذني إلى مبنى معرض بغداد الدولي».