ينعقد باسطنبول في نيسان ابريل المقبل مؤتمر دولي بعنوان "التعليم والتربية في العالم العثماني"، وذلك بمناسبة الذكرى المئوية السابعة لتأسيس الأمبراطورية العثمانية، وينظم هذا المؤتمر عدة جهات علمية في اسطنبول: "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية"، و"الجمعية التاريخية التركية" و"الجمعية التركية لتاريخ العلوم". وتتوزع أعمال المؤتمر على ثمانية محاور، تتناول صدور "تنظيمات" في الشأن التعليمي في المجالات القضائية والدينية، أو بين "الباب العالي" والولايات، ودور المؤسسات التربوية، سواء في صيغتها التقليدية أو الإصلاحية، والحياة الدينية والتصوف، والحياة الثقافية في نسقها التقليدي المتوارث أو في تجديداتها تبعاً لتأثرات غربية، وتقاليد العلوم وتحولاتها التقنية وغيرها، والتقاليد الكتابية ودخولها في عهد الذيوع الصناعي وغيرها من المسائل، التي لها أن تحكي، سواء في العالم التركي أو في العوالم الأخرى المنضوية في الحقبة العثمانية، حكاية الاتصال مع الماضي الثقافي - الديني وحكاية الانفصال الذي أدى الي جعل الثقافة وقبلها التعليم والتربية تقوم على أسس جديدة، غير أسسها المتداخلة مع الدين. تعليم أم اكتشاف؟ لا يتأخر برنار لويس عن استعمال لفظ "الاكتشاف" في عنوان كتابه "كيف اكتشف الإسلام أوروبا" 1982، في طبعته الأميركية للدلالة على مسار "الفضول" الذي بات يعين المبنى الذهني والخيالي والتعليمي في الحقبة العثمانية. ولقد اتخذ الفضول أو تشكل في مسار في مطالع القرن التاسع عشر، حسب لويس، ذلك أن أوروبا ظلت قبل هذا العهد منطقة بعيدة، نائية، لا تثير اهتمام العالم الإسلامي. وحصول مثل هذا التباعد هو الذي جعل عملية الاتصال بين العالمين، وفي غير مجال وسياق، أشبه بعملية الاكتشاف. ولكن أهو اكتشاف فعلاً، أم مباينة، أم تداخل بين مقتضيات ثقافتين وعالمين؟ نثير السؤال، ذلك أن ما جرى في مطالع القرن التاسع عشر، سواء في الأستانة نفسها، أو في مراكز غير ولاية عثمانية، وقبل مدن الداخل والقصبات والقرى، جدير بالملاحظة والتتبع والتبين، لأن فيه ما يشير الى غير مسار، على ما تحققنا. إلا أن حصول هذه المسارات إشارة الى نهاية مسارات أخرى، هي مسار "العلماء"، كما نلقاه في غير كتاب قديم يتحدث عن مسار التعليم والدرس في العهود الحثمانية وقبلها. وهو المسار الذي يتحقق محمد رشيد رضا من كساده، عند زيارته طرابلس في مطالع القرن الجاري، أذ يقول ان العلماء فيها "تركوا الدرس والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف"، وانصرفوا الى أمر الدنيا من تجارة وزراعة "لكساد بضاعة العلم". وهو عينه، محمد رشيد رضا، الذي يقول في تحقق مأسوي من اندثار خط العلماء: "لقد نام المسلمون نومة اجتماعية أطول من نومة أهل الكهف وأثقل، الموقظات التي تضج الأسماع تتوالى من حولهم كالصواعق وقد ضرب على آذانهم فهم لا يسمعون، ولما بعثوا وجدوا ما يعرفون من سير البشر قد تبدل فصار على غير ما يعهدون، رأوا الغربيين قد سادوا العالم وتولوا إدارة شؤونه في بلادهم وبلاد غيرهم من حيث يشعر أولئك الأغيار ومن حيث لا يشعرون، فحاروا في أمرهم لا يدرون ما يصنعون". فكيف جرى ما جرى؟ لا يعالج لويس في كتابه المذكور التعليم كمسار مستقل يتحقق فيه من حصول الفضول، والاكتشاف بالتالي، وإنما يستعرض بعض جوانب هذا المسار ومواده، مثل تعلم اللغات والانفتاح على ثقافات أخرى، أو القبول بدخول وسائل الذيوع الحديثة، كالمطابع، وموادها في الكتب والصحف وغيرها. ويتحقق لويس في هذه المراجعات - التي تتوسع في النطاق التركي ضمن العالم العثماني - من اللامبالاة بما يجري في أوروبا، قبل الخشية منه أو احتقاره: فالسفير المغربي، الغساني، يسخر من المطبعة، "طاحونة الكتابة"، حين يتعرف عليها في فرنسا، قبل أن يخشى السلطان العثماني من عواقب دخولها على الحياة العثمانية، فيعمل على استصدار "فتوى" للسماح بعملها في منتصف القرن الثامن عشر، على أن تمتنع عن طبع الكتب الدينية. ستنقلب الآية في القرن التاسع عشر، لا بل ستتحول هذه الخشية الى تشوف في بعض الأحوال، والى اتباع يكاد يكون أعمى للمثال الأوروبي. إلا أن دخول بيئات العالم العثماني في هذا المسار مختلف، فما جرى في مدينة "الباب العالي" هو غير ما جرى في قاهرة محمد علي أو في بيروت أو تونس. فنحن لا نتبين كفاية في الأستانة حقيقة الإذعان الى مقتضيات هذا النظام الضاغط من حقيقة القبول به بل التشوف الىه، فيما نتبين قيام سياسة تحديثية لمحمد علي، لا يتورع معها عن الإتيان بتراجمة وقفوا الى جانب الأساتذة الإيطاليين أو الفرنسيين لشرح العلوم "العصرية" للطلاب العثمانيين والمصريين. التعليم في عهد الجماعات والدولة كما نتحقق، سواء في تركيا أو في مصر، من قيام الدولة بالدور الأول في توجيه سياسات التعليم والتربية، فيما نتحقق، سواء في مدارس جبل لبنان، أو في الحوزات التأهيلية في جبل عامل، أو في المدارس القرآنية في طرابلس أو صيدا، من اضطلاع الجماعات الطائفية والجماعات التبشيرية بهذه السياسات. ونتلمس كذلك في مدى هذه المراجعة والمقارنة حصول عمليات في المجال التعليمي والتربوي، تصدر عن سياسة منظمة ومتتابعة أو عن تعثر وتخبط، ليس أقلها أحياناً انتظار جماعات وأوساط حصول هذه السياسات وتطبيقها بالتالي، مثلما انتظرت جهات إسلامية عديدة تحقق مثل هذه السياسات في الإدارة العثمانية وتقيدها المتأخر بها. هذا في الوقت الذي بادرت فيها جهات أخرى، سواء مع الجهات التبشيرية أو مع سياسة محمد علي، الى انتهاج سياسة تعليمية، صريحة ومبكرة، اتسمت بدينامية ظاهرة و"هجومية". وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، تفاوتاً وتبايناً في دخول التعليم والتربية، بشروطهما "العصرية"، في المجال العثماني، حيث أنه يستحسن الحديث عن عوالم مختلفة، وإن اشتركت أحياناً ببعض مظاهر الشبه والتقارب. فتجربة محمد علي اشترطت في التعليم أن يكون مشدود الصلة بالصناعة وحاجات المجتمع المختلفة، فيما طلبت تجارب الجماعات الطائفية اللبنانية حاجات أخرى من التعليم اتخذت سبيلاً دينياً ودعاوياً، قوامه إنتاج المدرس، من جهة، أو سبيلاً في الترجمة، قوامه إنتاج الوساطة الثقافية، من جهة ثانية. لهذا يمكننا القول إن تجارب التعليم العثماني دخلت في القرن التاسع عشر في مسارات مختلفة لا يجمعها، لا مثال إسلامي - عثماني عام قوامه نظام "الحلقة" الدينية - التدريسية، ولا سياسة موحدة كذلك طالما أن "نظام المعارف" أجاز للملل وضع سياسات تعليمية خاصة بها، تحت رقابة الإدارة العثمانية ليس إلا. عدا أن التجارب هذه اتخذت سبلاً متباينة، ومختلفة زمناً، في الاتصال بالمثالات الأوروبية بوصفها مثالات التمدن، ومنها مثالات التعليم. ويكفي للتدليل على هذا التباين أن نشير في أحوال الجماعات اللبنانية، على سبيل المثال، الى دخول متعلمين موارنة، منذ ابن القلاعي في نهاية القرن الخامس عشر، في مسار تعليمي مع رومية وفرنسا وغيرها، فيما جرى تأسيس أول مدرسة "عصرية" في بيئة جبل عامل، في العام 1884، وبمبادرة عثمانية. غير أن مراجعة هذه الوقائع تستدعي غير سؤال حول محركات التعليم ودوافعه ونتائجه: هل حقق التعليم في العهد العثماني الأخير النقلة المرجوة، والوصل اللازم بما كان منقطعاً عنه؟ وهل أدخلنا التعليم "العصري" في ما كنا غافلين عنه، ووفر لنا في مواده ما يمكننا من إنتاج حاجياتنا، فلا نعود مستهلكين لإنتاجات غيرنا؟ وماذا عن طبيعة التعليم نفسها: أمثاله قائم فيه أم هو نسخة متدهورة عن مثال واقع خارجه؟ نتساءل، ذلك أن دخول السلطنة في عهد "تنظيمي"، لإدارتها كما لتعليمها، عنى في غالب الأحيان، التخلي عن سلطتها وتفكك حلقاتها" كما ان إمساك جماعات وجهات محلية بقسم من السلطات هذه، تلبية لنزعات تمايزية أو استقلالية، ما غيب أو ما منع بعد وفت قليل خضوع هذه السلطات المتكونة الى سلطات تابعة، بل تحت الانتداب أو الوصاية