الكتاب: وليمة العائلة قصص ونثر المؤلف: راينر ماريا ريلكه ترجمة: حسين الموزاني الناشر: دار الجمل - المانيا 1998. ما أجمل أن يعثر المرء على نصّ جديد يشبع الظمأ إلى القراءة. وإذا أمكنه في الوقت ذاته إضاءة الداخل بالأفكار، فإن الأمر يصبح أكثر جمالاً. انتابني هذا الشعور منذ الجملة الأولى في قصة "حظّ أبيض" للشاعر النمسوي راينر ماريا ريلكه، في هذه المجموعة من القصص والنصوص النثرية. وإذا كانت الجملة الأولى في كل نصّ جيد تكشف قوة بنائه ومتانة لغته، فإن وجود اسم الشاعر ريلكه على ذلك النصّ يمثل سعادةً لا يضاهيها إلاّ العثور على طبق من الأكل والماء العذب في صحراء شاسعة. المدهش في قصص ريلكه أننا في المنطقة العربية لم نعرف ريلكه قاصّاً، وحتى شعره لم يترجم منه إلاّ القليل. وحسب مقدمة المترجم فإن قصصه لم تحظَ بالاهتمام الذي لقيته أعمال معاصرِه كافكا، فهل تُشمّ رائحة ايديولوجية وراء هذا التمييز؟ إن قصصاً مثل "حظّ أبيض" و"الصوت" و"توحّد" و "أثناء الحديث" تتوافر لها حبكة ممتازة وتكثيف شديد وموضوعات قوية، تتلألأ وسط ذلك لغة سرديّة غنية بالمجازات والصور الشعرية، ممّا يضعها في مصاف أهم النصوص القصصية الحديثة التي كانت تظهر في بداية هذا القرن عِبرَ كافكا وجويس وبروست. ويبدو أن قلّة نتاج ريلكه من القصص القصيرة هي التي حولت عنه الانتباه الى كتّاب أكثر غزارة، تدعم شهرتهم أعمال روائية في فترة اعتبرت العصر الذهبي للرواية. على المستوى الشخصي، ذاق ريلكه طعم الفواجع بموت اخته المبكر وانفصال والدته عن أبيه. وخارج البيت كان محاطاً بفواجع الحروب التي عاشتها أوروبا وأخيرتها الحرب العالمية الأولى. وبسبب حساسيته الشديدة تمثلت له الحياة كحال مأسوية، بالموت أو بدونه. وكانت الوحدة، وحدته الخاصة ووحدة الإنسان في علاقته بالعالم من حوله، تتكرر في جميع قصصه ونصوصه النثرية. وفي قصة "ايفالد تراجي" التي تعدّ جزءاً من سيرته الذاتية، وهي أطول قصص المجموعة، يقدم ريلكه الموضوع الذي تناوله الكثيرون من الكتّاب، وهو أن الوحدة قدر الشاعر، من خلال أحداث درامية تقود في النهاية إلى الفكرة الرئيسية من دون إخلال بمقومات القصّ وشروطه. وأغلب شخصيات ريلكه وحيدة، في الواقع أو في الإحساس الذاتي، وأفكاره عن وحدة الإنسان دائماً تأتي عميقة وذات بعد فلسفي. إن حرفة الشعر، التي اتقنها ريلكه بعد كدح طويل وتجارب أليمة كما تقول الناقدة ليديا بَير، وضعت بين يديه نعمة التركيز في السرد. وأنا أعتبرها نعمة، لأنها في الواقع قدرة يمتاز بها قلّة من الكتّاب. فالوصف في قصص ريلكه مكثّف، يخدم الحدث الذروة عبر صور شعرية. وهذا الإيجاز والاستعارات القوية لا نجدهما إلاّ لدى القصاصين الكبار، خصوصاً اولئك الذين ينتمون إلى الشعر من قريب أو من بعيد، لأن الشاعر العظيم لا يكرر استعاراته، حتى في النثر. وأغلب قصصه تتخللها لفتات ساخرة، أو تبدأ بسخرية بارعة لتنتهي، في كل مرّة، نهاية درامية أو مأسوية حفّار القبور. وسخرية ريلكه لاذعة، مدعمة بصور وعبارات رمزية شفافة. ويبدو أن أصحاب الذكاء الحزين تأتيهم الصور والمعاني الساخرة بإلهام شفاف وعميق. ومعرفة ريلكه الواسعة تخدمه في رسم الشخصيات بدقة، وفي فتح الموضوعات وإغلاقها ضمن بناء متماسك له خلاصاته الفكرية الواضحة، وهذا أهم شيء في عملية القصّ. لكنه عندما يصبّ غضبه على أنماط معينة من المدّعين يضعف لديه القصّ لتطغى السخرية البارعة وحدها كما في قصة "فلاديمير رسام الغيوم". وأحياناً يطغى الحوار على السرد وعلى رغم جمالهما إلاّ أنهما يهبطان بمستوى الحدث الدرامي المطلوب، كما في "كيف وصلت الخيانة إلى روسيا". بالتأكيد أن أفكار نيتشه عن الرسم تذكّرنا بنيتشه، لذلك تجدر الإشارة إلى أن ريلكه، مثل بقية كتّاب الألمانية في تلك الفترة، تأثر بغوته ونيتشه والفلاسفة الآخرين الذين عايشهم، لأنه كان متصوّفاً تغلب الهواجس الغيبيّة على تفكيره، في الشعر وفي النثر وفي الحياة. لا شكّ في أن أشكال الأحزان واحدة، لكن نظرة الإنسان إلى أسبابها تختلف. وقد كان شعور ريلكه بالوحدة، الذي لازمه إلى آخر يوم من حياته، معذّباً، لكنه حقق له امتياز النظرة الكونية الذي حصل عليه، كما اعترف بنفسه في قصة "ايفالد تراجي". لكن أكثر قصص المجموعة تجسيداً لفكرته عن الوحدة، بصورتها الوحشية والقدرية، هي قصة "حفّار القبور". يبدو لي أن "حفّار القبور" كتبتْ بعد تجارب ريلكه الأولى في القصّ وفي النثر، وهي تحمل آثار اقامته في فرنسا 1900-1902 لأنها تتضمن أهم عناصر السرد الحديث، الرمزية والإيجاز وقوة الموضوع. ولو اختار ريلكه موضوعاً غير الموت، الذي سيطر على أذهان كتّاب فرنسا الرمزيين في تلك الفترة، لاقتربت هذه القصة في هيكلها العام من القصيدة الحديثة، وحملت أدواتها التصويرية. فالشخص "الغريب الذي يصل المدينة" و"ينمّ مظهره عن مسحة نبل" و"يصف عمله بأنه ليس صعباً" و"تتلمس ابنة المختار -الصبية غيتا- يديه معاً وبتلقائية" و"تقف أمامه كما لو أنها وقفت تحت أشعة الشمس" و"تقوده إلى طريق المقبرة الذي تعلمت السير فيه لأنه يؤدي مباشرةً إلى الأمّ التي انتزعتها منها في وقت مبكر"، هو حفّار القبور الجديد... وهذا السرد المتين يحتاج إلى مجرد التوزيع الهارموني ضمن مقاطعَ ليتخذ هيئة القصيدة ويحمل قوتها التصويرية. ثم يضطرد القصّ بالنَفَس المتوتر ذاته، وتبرز، وهي تتبلور في براعة، الأفكار عن وحدة الإنسان من خلال ملاحظات وحوارات ذات بُعد ميتافيزيقي تدعمها أحداث متماسكة تنتهي بتراجيديا فردية وعامة، تشبه التراجيديات التي تنتهي خطوتها الأخيرة بيوم القيامة، مستعملاً في سبيل ذلك الخيالات المحمومة وأكثر الأمراض رعباً في قلوب البشر الطاعون والكوابيس والأحكام المتشائمة، لكن الذكية، التي تدعم فكرته عن وحدة الإنسان: "إن الناس كلهم منفصلون عن بعضهم بشكل مرعب، أما أولئك الذين يكنون الحبّ إلى بعضهم، فإنهم أشد الناس فرقةً وانفصالاً، وهم كثيراً ما يبعثرون أشياءهم، لكنهم لا يلتقطونها ثانيةً...الخ". إضافة إلى نفسية الشاعر التي يصوغها بدقة وشفافية في قصة "إيفالد تراجي"، يقدم ريلكه شخصية مهمة لم يتطرق إليها الكتّاب كثيراً، باستثناء هنري ميللر الذي أفرد لها رواية كاملة بعد سبعين سنة على وفاة ريلكه تُرجمت الى العربية تحت عنوان "شيطان في الجنة"، أعني شخصية المتطفل الذي يظهر وينمو على هامش الأدب لكنه يحتل مكاناً في القلب من أجوائه. هؤلاء المتطفلون موجودون في كل زمان ومكان ربما في الشرق أكثر من الغرب وتخلقهم ثقافة المدن ومقاهيها وتجمعاتها، ويحظون باعتراف الجميع داخل التجمعات الأدبية، من دون أن يناقش أحد فحوى هذا الاعتراف. وبعضهم يتصرفون وفي دخيلتهم شعور بأنهم لا يقلّون شأناً عن الكاتب، أو أن ما يفرقهم عن الشاعر بضع ساعات وراء الأوراق لينتجوا أعمالاً مهمة، والبعض منهم يتحوّلون إلى لصوص كتب فيشعرون بأن عملاً كهذا يقربهم من الأدب أكثر من الكتابة ذاتها، وقسم آخر يلازمه الشعور إلى آخر يوم من حياته بأنه على وشك تقديم العمل الذي ينتظره الجميع على أحرّ من الجمر. وجميع هؤلاء مسالمون في حقيقتهم، قانعون ومرتاحون من وضعهم ومن تعطلهم، وينتهون بعد أن تتكدس عليهم السنون نهايات درامية... وريلكه يوظف في قصته شخصية من هذا النوع لتحقيق النقلة التي تحتاجها صحوة بطله الشاعر