يكتب رؤوف مسعد على امتداد حلقتين 1 و 8/11/1998 استغرقتا نحو صفحة كاملة من جريدة "الحياة"، مستعرضاً ومبرراً زيارته لإسرائيل، في معية بعثة من التلفزيون الهولندي، بغية إنجاز بحث ميداني عما حدث للشعب الفلسطيني بعد خمسين سنة، و"التنقيب عن الثقافتين الفلسطينية والإسرائيلية، ومدى العلاقة الجدلية بينهما، وأوجه الاختلاف والتشابه"! قرأت الحلقتين بإمعان بحثاً عما يكون قد توصل إليه الكاتب، فلم أجد شيئاً. وعدا عن السرد المكرر الرتيب لما حدث له في مطار "تل أبيب"، ذهاباً وإياباً، وعن طبيعة الحوار الذي دار بين رجال الأمن في المطار وبينه، عجزتُ حقاً وفعلاً عن التوصل - عبر سطور الكاتب - ولو لسبب واحد وجيه يبرر فعلته، أو يكافئ ما دفعه فيها. فالواضح أنه لا "ما حدث للشعب الفلسطيني" ولا طبائع "العلاقة الجدلية" بين الثقافتين، كان لهما أدنى حضور في ذهن الكاتب أثناء رحلته أو كتابته عنها في ما بعد، بل وحتى التبرير التقليدي الذي يقدمه بعض المتثاقفين لتبرير خطوتهم تحت زعم "معرفة الآخر"، لم يبد له أي أثر في سطور رؤوف مسعد. فلا ازدادت معرفته، أو معرفتنا، بإسرائيل عمقاً، ولا كشف لنا عن خبئ أو أبان مستوراً، وكل ما جاء على لسانه ينطبق عليه وصف "رجع بخفي حنين"، ما عدا خيبة الأمل التي تنضح من بين سطوره، إزاء الطريقة المهينة التي استقبله بها الإسرائيليون، والكيفية التي عاملوه من خلالها، وكأني به كان ينتظر أنهم سيفرشون له أرض المطار بسجاد مُخملي أحمر، ويستقبلونه بباقات الزهور وموسيقى السلام، مع إطلاق بضع مئات من الحمامات البيضاء والعصافير الصّداحة! ذكّرني حديث رؤوف مسعد بحديث مشابه سابق لزميله في الكتابة المسرحية، ورائده في الرحلة الإسرائيلية علي سالم، الذي كتب تحت عنوان "زيارة إلى إسرائيل تنتهي إلى نتائج مختلفة: كيف السباحة ضد التيار الى جانب أسماك القرش؟"، "الحياة" 23/10/1998، ينعي خيبة أمله لأن مسؤولي الأمن في مطار "بن غوريون" لم يعودوا "يسمحون بالمرور"، بابتسامة عريضة، لمصري من دعاة السلام! ولأن أصدقاءه الصهاينة القدامى صاروا يتهربون من لقائه، ويعمدون الى تنبيهه "أنني هنا لستُ على الرحب والسعة، بل على الفتور والضيق"، وينفجرون غضباً وكراهية في وجهه هو الذي لم يكف لحظة عن تقديم نفسه لهم: "أنا فلان الكاتب المسرحي المصري وداعية السلام"! ما لا يريد كل من علي سالم ورؤوف مسعد الاعتراف به هو أن دورهما ودور أمثالهما في "تمثيلية السلام" الإسرائيلية انتهى تماماً، لأن المسرحية ذاتها تلفظ آخر الانفاس، أو هي لفظتها بالفعل. وليس هذا لأن "الليكود" المتعصب القبيح هو الذي يحتل مواقع السلطة - في إسرائيل - الآن، بل لأن المجتمع الإسرائيلي، في غالبيته، ينحو، أكثر فأكثر، باتجاه العنصرية والتشدد، ولأن التيارات الأصولية تكتسب مواقع متقدمة شيئاً فشيئاً. وعبر كيرشن الإسرائيلي السلامي "اليساري" المزعوم عن هذه الحقيقة التي كان لها طعم العلقم في فم "داعية السلام المصري" علي سالم، حينما صفعه بواقعة تصويته، هو والكثيرون من أمثاله، لمصلحة حزب "الليكود" اليميني، مع إدعائهم - نفاقاً - بأنهم صوّتوا لمصلحة "العمل" اليساري!: "نعم "الليكود" لأنه سيأتي لنا بما نريده وهو الأمن، أمننا بعد أن عجز حزب "العمل" عن الحصول على السلام وأضاع الأمن". في كلتا الحالتين تتلبس "البطلين"، سالم ومسعد، تخيلات وهواجس عن دور ملتبس في بطولة مسرحية موهومة، ويختلط لديهما الواقع بالتهيؤات، ويحتاج التبرير السيكولوجي لفعلتهما التي يدركان في أعماقهما السحيقة كم هي مخادعة وغير مقبولة إلى التشبث بهذه "المسرحية داخل المسرحية"، إذ أن "مسرحة" فعل مشين، كالتوجه طوعاً - تحت مزاعم شتى - الى حيث العدو الذي اغتصب أرضاً وشرد شعباً، يحتاج الى أن "يُمثل" الإنسان على ذاته، وأن يخادعها، ويطمئنها الى انه لم يرتكب فعلاً فاضحاً أو مؤثماً ولا أتى خطيئة! عن أي دولة فلسطينية يتحدث مسعد، وعن أي قدس يتكلم؟ ألم يسمع تصريحات قادة إسرائيل ليل نهار؟ ألم ير في شاشات التلفزيون الهولندي، الذي يعمل معه، ماذا تفعل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ ألم يدرك من خلال رحلته عمق هذه الكذبة؟ ألم يقرأ اتفاق "واي بلانتيشن" مثلاً؟ ألم يعلم - من خلال بنوده - كم أن وهم "الدولة" الفلسطينية المقبلة بعاصمتها التي يتم الترويج لها، مثلما يفعل هو، وهم خادع لا ينهض على أساس، ولا يستند لركيزة فعلية في أرض الواقع؟ ويعرف رؤوف مسعد معرفة اليقين أن زيارته لإسرائيل ستجعل منه إنساناً ملفوظاً في أوساط اليسار المصري وكل الوطنيين المصريين، فيبادر - على النمط العسكري الإسرائيلي - بهجمة استباقية، مندداً بمن "ينصبون أنفسهم ولاة حسبة" خصوصاً من أهل اليسار. وتعلمنا التجربة، وهي أمامنا مجسدة في أمثلة عدة، أن المثقف الذي كان "يسارياً" و"وطنيا"، حينما ينكسر، لا يريد أن يعترف أمام نفسه، بذلك، ولذا فهو يحاول اللجوء إلى التعمية والتمويه، فيستخدم جماع قدراته المتراكمة، وخبراته المتعددة، في محاولة لطمس الأسباب الحقيقية الكامنة خلف تحولاته، والتي زعزعت صموده. ويفتش في أعماق ذاكرته أو أوراقه عن أسباب واهية في الغالب، ودواع غير حقيقية على الأرجح، لكي يستند إليها في محاولة تبرير فعلته التي يدرك - في دواخله - كم هي مدانة وبائسة ويائسة أيضاً. لكنه يقلب الآية، ويصير إلى إتهام رافضيه ومقاطعي "مسرحيته" أو زيارته على اعتبار أنهم مُكَفّرو أفكار، ومحاربون للتعددية الحبيبة إلى نفسه والمعادون للسلام وحرية تبادل الآراء. وفي اعتقادي أن موقف اليسار المصري، الذي يهاجمه مسعد، والرافض بحسم للتطبيع مع العدو الصهيوني الذي اغتصب الأرض والعرض، والمستمر في الاستهانة بالبشر والحياة على النحو الذي نعايشه، والذي ليس بحاجة إلى مزيد من الإيضاح، هو موقف صحيح غاية الصحة، بل هو الموقف الوحيد الصحيح إن أردنا الدقة، وهو شرف له، يمنحه الحق في أن يقف مرفوع الهامة وسط كل التيارات الوطنية المصرية المقاومة لمحاولات الاختراق الصهيوني، وهو دور مشهود له ومقدر ومعترف به من العدو قبل الصديق. فليس بمثقف يحترم نفسه الآن من لا ينضم إلى الصفوف المتصدية لكل روح انهزامية تبرر انكسارها وتروج لضعفها بتبريرات لا معنى لها ولا قيمة. وتحدي إجماع الأغلبية الساحقة، في قضية تمس الثوابت الوطنية، ليس بطولة، والتعامل مع المغتصب على النحو الذي نراه في حالة سالم ومسعد وأمثالهما ليس شجاعة، وتحدي الإرادة الوطنية العامة ليس وجهة نظر، بل كان لها في الأيام الخوالي اسم آخر يعرفه الجميع! ويكرر رؤوف مسعد في أكثر من موقع أن دافعه لهذه الرحلة هو اقتناعه "بحقه في اتخاذ قراره". والحق أن هذا الزعم الغريب لا معنى له ولا موضع هنا. فرؤوف الذي تجاوز سن الرشد بكثير فوق الستين باعترافه، والمستقل اقتصادياً، والذي يقيم في إحدى دول الغرب المتقدمة منذ سنوات، لا أظن بوجود مَن يحرمه من حقه في اتخاذ قراراته بأي صورة من الصور، اللهم إلا إذا كان هذا يعني الحق في كسر المحرمات الوطنية، والتحلل من أي التزام للمثقف يمينياً كان أم يسارياً في مواجهة عدو عنصري كإسرائيل. ولعلي هنا أتوجه إليه بالسؤال: تُرى ماذا كان يمكن أن تكون نظرة الجماعة الوطنية الى مثقف، وليكن فرنسياً مثلاً، إبان فترة احتلال النازي، إذا ما خرج عن إرادتها في مقاومة المعتدي المحتل، خلال ذروة احتلاله وعنجهيته، وفاجأها بالهرولة الى دولة "الرايخ الثالث"، بحجة محاورة مثقفيها، وسؤالهم عن صحتهم وأفكارهم، وبحجة أنه "سيد قراره" ويحب ألا يحرمه إنسان من متعة هذه السيادة؟ وفي حالتنا هذه، وعلى رغم إحالة رؤوف التاريخية التي تُرجع قراره بالسفر الى دولة العدو الصهيوني الى عهد قديم يمتد إلى زمن الغزو الإسرائيلي للبنان عندما عاهد نفسه "بألا ينساق وراء قرارات ومواقف قبل تمعنها وتمحيصها"، نحن نراه "لا "يمعن" أو "يمحص" خطوته تلك إلى ما يسميه "تدليلاً" فلسطين - إسرائيل. وهو هنا كرر خطأه السابق الآخر بالإصرار على السفر إلى فرنسا مشاركاً في احتفالها بمرور "مئتي سنة على غزو نابليون لمصر"، مبرراً أيضاً سلوكه هذا - الذي شذ فيه وحده عن مواقف كل المثقفين الوطنيين - تبريراً ساذجاً، هو أن "حملة نابليون هي التي كشفت حجر رشيد، ونفضت الغبار عن تاريخي الذي جهله أسلافي"، إلى جانب قناعات أخرى "ليس هذا مجالها"، على حد قوله، وإن كنت أدرك بعضها مع الأسف الشديد. وفي الحقيقة، فإن هذا التبرير هو أسوأ ما يمكن أن يقدم من تبريرات وأكثرها سطحية، وهو لا يختلف في شيء عن تبريرات أي غازٍ مستعمر، بل ربما يكون هو المبرر الذي تقدمه الصهيونية في دفاعها عن دورها، وإن بصورة أخرى. فلم يكن مقبولاً، تحت أي مبرر، أن تحتفل أمة مع مستعمرها السابق بذكرى استعماره لها، وإلا كان علينا - بالمثل - أن نحتفل بذكرى مئة عام مرت على الاحتلال البريطاني، وقد كان السبب في نشر التعليم وشق الطرق ومدّ الترع خدمة لمصالح ذلك الاحتلال وأغراضه، بل وربما كان علينا أيضاً أن نحتفل بمرور ثلاثين عاماً على الغزوة الصهيونية لسيناء ما دام أمثال رؤوف مسعد مستعدين لتقديم المبررات دائماً! وككل إنسان، بله إنسان عاقل، أفترض أن رؤوف مسعد قدر حسابات الربح والخسارة في زيارته تلك، وفي توقيتها هذا، قبل الإقدام عليها. وباستثناء بعض المكاسب المادية العائدة عليه من "البيزنس" الذي أتمه لصالح التلفزيون الهولندي، لا أظنه رجع بأي مكسب آخر يوازي خسارته الكبيرة، في الرحلة، تعوضه عن عزلته، وعن نظرة الجماعة الثقافية الوطنية المصرية اليه، ورأيها في سلوكه. ولعلي أعترف بأني شعرت - شعوراً حقيقياً - بالرثاء لمسعد، وبالحزن من أجله، وأنا أقرأ وصفه لنظرة أطفال "الكيبوتز" الذي أمضى ليلته فيه، وهم يتأملونه وهو على مائدة الطعام "كما نتأمل، في زيارتنا لحديقة الحيوانات، الشمبانزي، وهو يستخدم أدوات المائدة!!". فهل كان رؤوف مسعد بحاجة لاجتراح كل هذا العذاب، ومعايشة كل ذلك القلق، من أجل التعرض لمثل هذه المواقف، أو لمجرد اكتشاف كُنه نظرة أطفال إسرائيل المهينة، التي يرضعونها منذ مولدهم، اليه والى زملائه من زوار إسرائيل! أصارح رؤوف مسعد، وأرجو أن يتقبل مني هذا القول: لقد أسأت القرار، وأسأت الاختيار، وأسأت التبرير، وأسأت التفسير، وقدمت - بعد انتظار - مسرحية فاشلة، أدانها النقّاد، وانفض عنها النظّارة، فسقطت سقوطاً مدوياً! ... فما أبأس "التمثيل" في الوقت الضائع. * كاتب مصري