لا يقول لك المنتج محمد العدل أنه سعيد بنجاح فيلمه "صعيدي في الجامعة الأميركية" لكنك تستطيع أن تقرأ ملامح هذه السعادة، وأبعادها المادية، على وجهه وفي حركات يديه وتعابيره، انه حقق ما لم يستطع منتج آخر تحقيقة: حرك بفيلمه الواحد السينما المصرية من الجمود. وفي رأي غابي خوري، أحد إداريي شركة مصر العالمية التي يرأسها يوسف شاهين، والذي أحب فيلم محمد العدل في المشاهدة الثانية "أكثر من الأولى"، أن هذه العودة الواثقة الى صالات السينما سيستفيد منها كل فيلم مقبل حتى ولو كان متخصصاً ومختلفاً مثل الفيلم الذي انتجته الشركة العالمية تحت اسم "عرق البلح" لرضوان الكاشف. "صعيدي في الجامعة الأميركية" فيلم لا يمكن له إلا أن ينجح. المعطيات كثيرة وفي مقدمتها غياب السينما التي لها القيمة الفنية والفكرية عن الوجود. كيف تفسر هذا الإقبال إذاً على فيلم يتحرك بلا بناء قصصي جيد ويسرد حكاية ليست مثيرة وفيه تمثيل أدنى من المتوسط وتنفيذ تقني ليس أكثر من نصب الكاميرا هنا و"أكشن" المخرج سعيد حامد نفسه يقول، في حديث على الطاولة غداء: "أنا أعلم ما فعلت. لقد حققت قبل سبع سنوات فيلماً لم يقبل عليه أحد يقصد "الحب في الثلاجة" وبقيت عاطلاً عن العمل باستثناء أعمال تلفزيونية قليلة. "صعيدي في..." لا أعتبره انتقاماً لكنه عودة ناجحة لمخرج يريد بالفعل تحقيق أفلام مختلفة وجيدة، لكن السوق يقول له لا". في هذه الحال لا نستطيع لومه كثيراً. حتى ولو أضاف على الفيلم بعض الملامح الفنية وقليل من المهارة الحرفية وأضفى ولو شيئاً من لبنات المعالجة الصحيحة، بأقل الحدود الممكنة والمتاحة، لما حقق "صعيدي في الجامعة الأميركية" كل هذا النجاح: 22 مليون جنيه حتى منتصف الشهر الماضي من مصر وحدها. يبدأ "صعيدي في الجامعة الأميركية" ** من خمسة بمشهد لخلف محمد هنيدي وهو يقرأ كتاباً بعنوان "أرواح وأشباح". لا بأس بالإشارة لتمييز هذا الصعيدي عن غيره فهو يبدو مثقفاً والفيلم من الآن ينتقل ما بين الضحك عليه، كصعيدي، وجعله يضحك على الآخرين أيضاً، لكن في المشهد الأول فإن الضحك عليه رغم ثقافته: أهو كلب أم بقرة أم معزة التي تجذب رداءه وتتركه في ثيابه الداخلية يركض في الحقول الخضراء عندما يتلقى نبأ استلام أبيه المنحة المخصصة لإبنه للدراسة في الجامعة الأميركية؟ لا يهم. المهم أن خلف يترك الكتاب وراءه ويقع في الوحل ويركض الى البيت ويفزع كلما شاهد نساء تغني بعدما أقام والده حفلة كبيرة للمناسبة. يصل الى القاهرة ويشارك قريبين من القرية ذاتها الشقة. وكاحتفاء به يحضران له فتاة سمراء الممثلة مستورة لكي يعاشرها. يخفق ونتركهما يدخلان واحداً وراء آخر. الى الآن الجمهور غارق في الضحك. لا تنسى صعيدي وقع في الوحل وهو يركض وراء كلب/بقرة/معزة، لا تنسى صعيدي يخاف من أشكال النساء العجوزات في القرية. ثم لا تنسى صعيدي يقول لفتاة المتعة السمراء وهو يحاول تجنبها: "كل الناس شافت ليلة حمرا... ما عدا أنا ليلتي كانت سودة". يصل الى الجامعة الأميركية مرتدياً بذلة ذات ذوق ريفي: برتقالية على أصفر تبرزه كما أقلام الفوسفور ويفاجأ بأن جميع الطلاب كلهم من ذات الصف على ما يبدو يرتدون ثياباً متحررة من التقاليد. لا أحد - حتى الأستاذ المثقف أميركياً - يرتدي بذلة. وسيتطلب الأمر جهداً ومالاً لتغيير مظهر خلف من صعيدي متخلف الى صعيد متحضر. الدافع ليس فقط التقليد، بل وقوعاً في حب فتاة واقعة بدورها في سحر الأستاذ الواقع بدوره في حب ثراء والدها وحب كل ما ترمز اليه أميركا، خيراً كان أم لا. ونحن في الفيلم لا نرى أي شيء خير لأن الفيلم كتبه مدحت العدل يرمي خيطاً سياسياً مهماً يود عبره نقد السياسة الأميركية. انتصار فريد قبل الوصول الى القاهرة هناك مشهد لمشاجرة في القطار بين خلف وشاب يرتدي قميصاً عليه رسم العلم الأميركي. يتم تمزيق القميص وما يدل عليه وإلقائه من النافذة. هذا وحده "انتصار" للقيم المضادة لأميركا صفق له الجمهور. ومن يدري؟ لو كان هناك عشر مشاهد لعشر قمصان أميركية ممزقة لانتصرت الإرادة العربية واندحرت السياسة الأميركية لما لا رجعة. الأستاذ المسلوب بكل ما هو أميركي يكتسب عداوة طالب يساري الميول. أما خلف فيقف موقف المعتدل طوال الوقت. كل همه الآن أن يكسب حب الفتاة المتعالية. وهناك يضع حيل تعود الى الفترة الذهبية لإسماعيل ياسين رحمه الله لا تزال تجد مكاناً لها في السيناريو ولا تزال تنفذ بالركاكة ذاتها، أو بركاكة أكثر في الواقع. لكن لا شيء يفيد بما في ذلك محاولة احراج الأستاذ المتباهي بالسطو على لباسه البحري وهو في وسط البحر بحيث لا يخرج إلا بإعادة لباسه اليه. الجمهور لا يزال يضحك! من قال أن العالم العربي مهموم؟ لكن البيت الذي آوى اليه خلف هو أيضاً في تصدع. الشقاق يحل بين الصعايدة الثلاثة وخلف يترك البيت ليعيش حيناً في سيارته القديمة وحيناً آخر لدى "مستورة" ذاتها. بعض قليل من تلك النكات حول السود ولا ننسى شخصية الأفرو - أميركي الذي يجعل منه الفيلم مادة تهكم كلما التقى خلف به يعيش خلف ومستورة في البيت الصغير الذي يأويها وقليل من بنات المتعة الأخريات. وهناك أغنية للمناسبة واحدة من أربع أو خمس أغاني موزعة. لكن خلف يعود الى صديقيه في الوقت الذي تتطور الأحداث على جبهة "الأبعاد" السياسية ذاتها. وكنا شاهدنا صوراً فوتوغرافية لممارسات اسرائيل على المواطنين الفلسطينيين وحان الوقت الآن لحرق العلم الإسرائيلي ولمفاد خلاصته قول رجل الدولة لخلف ولليساري: "عدوّنا عدوكم". مزيد من التصفيق. يشتم النساء! رسالة الفيلم السياسية مقبولة طبعاً كموقف، لكنها رديئة كقراءة. الفيلم يتخذ من تلك المحطات منفذاً لإثارة المزيد من المواقف المتعاطفة لكن قلبه في مغامرات خلف في جامعة تضم، الى جانب عقلية ليبرالية وتمثل شريحة اجتماعية اقتصادية مناوئة للصعيدي ولمعظم المصريين، استاذاً عليه أن يكون كاريكاتورياً لكي يسهل نقضه وتحجيمه. الى حد بعيد، يبدو الفيلم انتصاراً للجهل، طالما أنه شعبي، على الثقافة والمثقف، بحجة أنه أميركي. وقبيل حلول النهاية، بعد ساعة ونصف من العرض، هناك تلك العبارة التي يطلقها خلف والتي جعلت الآنسة التي جلست الى جانبي تضع يدها الى فمها المفتوح في دهشة. يقول ما معناه: لا تثق بالنساء. لا تثق إلا بأمك... وحتى لو تطلقت أمك لا تثق بها". الى جانب أن هذه العبارة تنتمي الى رسالة نقرأها في عشرات الأفلام المصرية القديمة والحديثة والتي تنحاز دوماً الى جانب الأم ضد الأخت وضد الزوجة وضد الخطيبة وضد أي فتاة أخرى، هي أيضاً رسالة فضفاضة تتصرف كما لو أن كل النساء يلدن أمهات. وهي أيضاً رسالة ذات أصول متخلفة. فرويد ذاته وجد الكثير مما تدلل عليه مثل هذه الحالات التي يميل فيها الرجل الى أمه ويفضلها على العالمين... طالما أنها أم - حسب قول خلف. يتساءل الكثيرون عن السبب الذي وجد الفيلم كل هذا الإقبال وإذا ما كان محمد هنيدي مسؤولاً عنه أو هي الصدفة وحدها قادته الى هذا النجاح. راقب معي، في محاولة للإجابة على هذا السؤال، مطلع فيلم "رسالة الى الوالي"، حيث نرى عادل إمام في سرير واحد مع امرأة. ثم راقب مطلع فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية". مقدمة الفيلم الأول تذهب ضد العقل والثاني تذهب معه. عادل إمام في الستين ربما والناس كلها تعرف ذلك لذا لا يمكن قبوله، وفي مطلع الفيلم كما لو أنه يريد أن يبرهن عن شيء ماس وهو في وضع كهذا. هنيدي ينطلق قابلاً الضحك عليه في البداية ومرات لاحقة ويصور نفسه عذرياً لا يعرف، في البداية أيضاً، شيئاً عن الحب لكنه يتعلم من الفتاة الهامشية. هذا يبدو للناس أكثر واقعية وقابلية للصدق ومدعاة للتأييد. الى هذا نضيف أن عادل إمام في الأفلام الأخيرة له داوم ممارسة لعبة ابن الشعب الذي يتسلق السلم ليصبح انتهازياً وثرياً. وإذا ما بقي شريفاً فهو ليس الشريف المثالي على أي حال. هذا من دون السؤال إذا ما كان الناس لا تزال تصدق أنه ابن الشعب الكادح فعلاً أو أن شخصية كهذه يمكن أن تصل الى القمة. ثم كم قصة تصعد وكم فيلم عليها أن تمثل في ذات المنهج. شكلياً، محمد هنيدي - مثل كوميديين كثيرين قبله بينهم إسماعيل يس وعادل إمام، يتمتع بالملامح التي تجعله أهلاً للضحك. ذات مرة كتب الزميل سمير فريد أن عادل إمام يشبه ذلك المخلوق الذي ابتكره ستيفن سبيلبرغ في فيلم "اي تي". إذا ما كان هذا صحيحاً على عادل إمام، فهو صحيح أيضاً على محمد هنيدي. "صعيدي في الجامعة الأميركية" ينجح بمستواه الفني المسطح الخالي من النتوءات تماماً. مثله في ذلك مثل السيناريو المكتوب له والمعالجة التي يقدم سعيد حامد لتنفيذ السيناريو فكل شيء مسطح والكوميديا مباشرة تعتمد الحوار والصورة إنما من دون بناء متصاعد، أو حتى منحدر. قفزات الفيلم الحديثة قليلة. في الواقع يمكن تلخيص الفيلم على النحو التالي: صعيدي في الجامعة الأميركية سمعت المخرج التونسي نوري بوزيد وهو يتحدث عن فيلمه الأخير "بنت فاميليا" ** من خمسة فيقول أنه أفضل من فيلمه الأول "ريح السد". لست مجنوناً ب"ريح السد" أصلاً لكن المقارنة لا تؤيد مثل هذا الرأي. "بنت فاميليا" قصة ثلاث نساء كل منهن لها مشاكلها وكل منهن لها طموحاتها ثم أن كل منهن تعاني - طبعاً - من الموروث من الظروف والتقاليد ولا بد من البحث عن الخلاص على طريقة "ثلما ولويس". واحدة من تلك الصديقات أمال الهذيلي التي ربحت جائزة أفضل ممثلة في دور أول مع نهاية دورة مهرجان قرطاج السينمائي تعاني الأمرين على يدي زوجها الذي نراه في أحد المشاهد يغتصب زوجته ويفشل حتى في هذا ثم يركض الى المغسلة لكي يتقيأ. مشهد للاستعراض وحده إذ لا تعرف لماذا فعل ذلك، لماذا لم يعرف كيف يفعل ذلك ولماذا تقيأ فوق ذلك. التمثيل هو أعلى درجات الفيلم، أما التنفيذ ففيه اختلاف عن أسلوب بوزيد السابق الذي قام على دمج الصورة بالمزايا الجمالية للبيئة التي تخرج منها. بذلك، يبدو الفيلم وقد افتقر الى واحد من أهم مزايا بوزيد مخرجاً. هذا الى جانب أن السيناريو ينطلق هذه المرة من دون بناء شخصياته على نحو يثير التعاطف أو على الأقل يضيء جوانبها جيداً. بمعنى أنه لا يكفي أن تكون البطلة امرأة، أو أكثر، لكي نصطف، كمثقفين، الى جانبها. هذا الفيلم، الأفضل من "ريح السد" وسواه حسب رأي مخرجه، أخفق في دخول مسابقات عدة مهرجانات دولية وانتهى الى قرطاج حيث أخفق في نيل جائزة... ربما كان في ذلك طرف خيط أو قبس من نور للمخرج ليراجع نفسه قليلاً