لا شك في ان العامية وليدة عصور الانحطاط وقيمه المتخلفة، ولذلك فهي قادرة على التعبير عن افرازات مراحل الانهيار الحضاري. وفي الوقت نفسه، تظل الفصحى متألقة بعيدة عن متناول المنتمين الى الانهيار وقيمه، لأنها اي تلك اللغة الفصيحة تعبير عن قمة التطور الحضاري العربي الذي توقف في نقطة من نقاط التاريخ. اللغة العربية، وأعني بها اللغة الفصيحة، كوّنها انسان طامح نحو آفاق التطور والتقدم. فكل النصوص التي بين ايدينا، والتي حفظ المعجم اللغوي التراثي بعضها، وحفظ التراث الأدبي والعلمي بعضها الآخر، أبدعها الانسان العربي منذ نقطة من نقاط التاريخ، تشكل البداية المعروفة للتطور الذي حققه ذلك الانسان. وليس من الغريب ان تكون بداية النصوص العربية الفصيحة الموروثة تعود الى ما يقرب من قرنين من الزمان قبل ظهور الاسلام، وانها استمرت الى حوالى اواخر القرن الخامس للهجرة. ثم توقفت بظهور آثار الدويلات غير العربية التي استولت على السلطة في ديار العرب آنذاك. فالانسان العربي في توقه للتطور، حمل معه لغته وطورها وأغناها وأثراها بمعاناته فكانت خير معين له على الوقوف امام الأقوام الاخرى وما تحمله معها من تراث في الفكر والفلسفة والأدب وغيرها من ميادين الحضارة التي لم يكن للعرب عهد بها بعد انطلاقهم من جزيرتهم العربية نحو تخوم العراق والشام وشمال افريقية والأندلس. بدأت اللغة، اذن، في تلك النقطة من التاريخ، بالنمو والازدهار، لأن الانسان الذي تعامل معها كان انساناً يسعى الى التطور والازدهار، وله طموحه الذي لا تحده الحدود، والذي اخذ نفسه بالجد والكد والعناء من اجل العلم والتقدم، فتألقت به وتألق بها، وبها اظهر احلى ما عنده، وقدم ملايين النصوص في الأدب والعلم وسائر ميادين الفكر. وفي تلك المراحل المتوقدة من تاريخنا، نجد العرب، علماءهم وعامتهم، حريصين اشد ما يكون الحرص على لغتهم، ولا يسمحون لأي كان بأن يخطئ فيها، او يسيء اليها، فكأنها كائن له قدسيته التي لا تمس. يروون ان عمر بن عبدالعزيز كان يستمع الى هشام بن عبدالملك يلقي خطبة، فقرأ هشام الآية "يا ليتها كانت القاضية" بضم التاء من "يا ليتها" فقال له عمر بن عبدالعزيز: عليك وأراحنا الله منك. ويروون ان احدهم لحن امام الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "قوّموا اخاكم فقد ضلّ". فجعل اللحن اللغوي أي الخطأ اللغوي ضلالا. ولا عجب في ذلك، فلقد كانت اللغة منصهرة بهذا الانسان المتعلق بقيم التقدم والتطور. واستمرت معه متنقلة ما بين البوادي الى الحواضر فالى العواصم الكبيرة شرقاً وغرباً. بها عبّر المتنبي عن عظمته وعظمة تاريخه، وبها أظهر المعري خلاصة فكره وتجربته، وبها طور ابن سينا الطب وعلومه... وآلاف غيرهم. ثم استولى الأعاجم على السلطة، فتركوا آثارهم التي بدأت تظهر على ألسنة الناس رويداً رويدا، فلما آذن القرن الخامس بالذبول، بدأت العامية بالظهور هنا وهناك وهنالك. اللغة العربية بقيت في القمة التي وصلت اليها، على يد المتنبي وأمثاله من المبدعين. اما الانسان فلم يعد هو المتنبي ولا المعري ولا ابن سينا... لقد انحدر ذلك الانسان عن مستوى التألق، اي عن المستوى الذي وصلت اليه اللغة. وبمرور الأيام والشهور والسنين المتطاولة تحت غبار الانكفاء والانهزام، قلت الحاجات اللغوية للناس، وبرزت لهجات يعبرون بها عن حاجاتهم المحدودة التي لا طموح فيها للرقي والتقدم. فكانت العاميات التي اخذت تتناسل وتتوالد الى مطالع العصر الحديث، ونلاحظ انه كلما ازداد عدد المتعلمين اتسعت مساحة الفصحى، وكثر استعمالها، كما تطورت فكرة تفصيح العامية. في هذا العصر الحديث، استفاق الناس على واقعهم الساكن المتخلف، وحاولوا اللحاق بركب العالم المتمدن، فبدأت اللغة الفصحى تستعيد شيئاً من شبابها وقوتها وعنفوانها. غير ان التقدم الحضاري لا يحدث بين عشية وضحاها، لذا ظلت العاميات تستعمل في اكثر من ميدان، شعبي ورسمي، او قل بتشجيع رسمي في كثير من الاحيان، بعد ان عجز الاحتلال الاجنبي عن فرض لغته، كما حدث في الجزائر وغيرها. وكان السبب الأساس في مواصلة العاميات انها اكثر من الفصحى قدرة على التعبير عن مراحل الانحطاط وقيمه، لأنها وليدة الانحطاط، ووليدة قيمه المتخلفة. اما الفصحى فوليدة عصور التألق والازدهار... وليس، بالضرورة، ان يكون جميع الناس مؤهلين للعيش في قيم التألق والازدهار