وفي المطلب الرابع ربط أستاذنا بين الثقافة واللغة؛ و»الثقافة، بكل بساطة، هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها، فهي مجمل العقائد والقناعات المطلقة التي تؤمن بها جماعة ما، والتي تمنح (المعنى) للأشياء (المحايدة في الأصل) من حولها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات ومعرفة. والثقافة بهذا المعنى، هي التي تمنح حضارة معينة شكلها و(نكهتها) الخاصة التي تميزها عن غيرها من حضارات، رغم أن جوهر الحضارات الإنسانية واحد، ألا وهو عمارة الأرض أو (الخلافة في الأرض)، إذا استخدمنا مفاهيم قرآنية، أو (العمران البشري) إذا استخدمنا مفاهيم خَلدونية»(1). وأما اللغة فهي وعاء الفكر والثقافة، والحديث عن مستقبل اللغة حديث عن مستقبل الثقافة. وكان الخوف على اللغة في تاريخنا الماضي وراء حركة التدوين المبكرة التي كان لجهود علمائنا الفضل في نقل واقع العربية الفصيحة في تلك العصور، ولكن الشكوى من التردي لازم تاريخ العربية كما قرره ابن قتيبة (276ه) والأزهري من بعده (370ه)، ثم ابن منظور (711ه) ثم الفيروزأبادي(816ه) حتى الزبيدي (1205ه)، وقد تعالت الأصوات في العصر الحديث مستنكرة حال العربية على ألسنة الكتّاب والشعراء، وكانت كتب التصحيح اللغوي متوالية منذ الكسائي إلى عصرنا هذا، وأشار الأستاذ إلى استفتاء مجلة الهلال في عام (1920م) عن مستقبل العربية وذكر جملة الأسئلة المطروحة، وقال إنه على الرغم من مرور ثمانين عامًا عليها ما زلنا نرددها، وقال إنه كان من المظنون أن العرب بعد الاستقلال سيثبتون أقدام الفصحى ولكن لا نجد من فعل هذا سوى سورية. بل العجب أن تأخذ اللغات الأجنبية مكان الصدارة في التعليم والسوق ويستشري نفوذ العامية وتدخل ميدان الأدب والإعلام والتعليم والإدارة بل ظهرت مطالبات بإحياء لغات محلّية، ومع ذلك يرى بعض الباحثين أن العربية من أقوى لغات العالم وأن ما تواجهه من تحد لا يواجه إلا بمزيد من الثقة، وهي اليوم اللغة الرسمية لأكثر من عشرين دولة وهي معترف بها دوليًّا وتطبع بها الكتب ويذاع بها، ويرى أستاذنا أن هذه النظرة المتفائلة لا تلامس حقيقة الواقع، فحدود مسرح العربية هو هو وأما اختيارها في المحافل السياسية فلاعتبارات سياسية ولا يدل على ازدهارها، والحديث عن العربية بعامة يختلف عن الحديث عن الفصيحة؛ إذ العامية أخذت مكانها في التعليم والتجارة والإعلام والشعر. ومن الباحثين من يرون الفصحى مهملة متخلفة لا يحسها أبناؤها رغم إمكاناتها. وبيّن أستاذنا أن هذا الواقع حاضر في أذهان القائمين على المؤسسات الثقافية والبحثية؛ إذ أقاموا الندوات والمؤتمرات المتوالية التي لم تفض إلى ما يجعل الفصحى في الصدارة، وضرب أمثلة لتلك الندوات والمؤتمرات. وراح يبين كيف طردت الفصيحة من مواقع كثيرة من أهمها المؤسسات التربوية؛ إذ من المضحك أن يبدأ الطالب حياته العلمية بسماع العامية من أستاذه، وأما أنا فكان ابني يتكلم الفصيحة في البيت لمراقبته برامج تتحدث العربية الفصيحة؛ ولكنه حين دخل المدرسة وجد لغة عامية مخالفة لما عهده في البيت، وأحس الغربة والخوف من الإقصاوالتندر عليه فتعلم العامية. وسأل أستاذنا كيف للغة أن تنمو وهي محاصرة بالإهمال وبإقصائها عن مواقع الحياة. والعربية لم يشخص واقعها بدراسة مستوعبة قائمة على منهجي الوصف والإحصاء، إذ الدراسات إما انطباعية، أو علمية جزئية. وناقش ما كتبه رشاد الحمزاوي في كتابه (الفصاحة فصاحات) وأخذ عليه أنه لم يستوعب حركة التصويب الضخمة التي بدأت منذ أوائل هذا القرن، وأنكر عليه تصوره انبتات الفصحى المعاصرة عن التراثية وأن شرعية الفصاحة في الحاضر مردها إلى الاستعمال، وهذا يدخل في فوضى لغوية، ويقتضي وضع قواعد مختلفة عن القواعد القديمة. ودعا إلى التمسك بمرجعية الفصاحة العربية القديمة، وعرض لمشروع (العربية الأساسية) وبيّن أن أكبر نقد وُجّه له تسويته بين العامية والفصحى من حيث المفردات والتراكيب وإهمال بعض المواد الفصيحة. وأما بعض أعمال المستشرقين الجادة فليست نابعة من الحرص. ومن هنا يتبين لأستاذنا أن واقع اللغة العربية المعاصر لم يحظ بدعم جاد يضعها موضعها الصحيح ولم تحظَ بدراسات متأنية مستوعبة تكشف عن حالها الراهنة بما يستشرف مستقبلها. ويرى أن للعربية حالا مختلفة من حيث أساليبها وتراكيبها وميادين التعبير بها تختلف عن ما ألف قديمًا على جماله وفضله، وهو اختلاف يوازي اختلاف حياتنا عن حياة أجدادنا، فلابد إذن من الكشف عن لغتنا الفصيحة المعاصرة المبرأة من العامية وما يخالف النطق الصحيح أو القواعد المقررة، وإنما هو استكشاف للمزاج اللغوي المعاصر، ومثل هذا لابد له من روح الفريق الذي ترعاه المؤسسات الكبرى، فإن حددنا المحصول اللغوي المعاصر استطعنا أن نخطط للمستقبل، ولنطور ثقافتنا لابد أن نحسن إعداد أجيالنا. وللفصحى المعاصرة مشكلات لابد من حلها ومن أهمها أن تمارس في الحوار والاستعمال وتمكين اللغة من أداء وظيفتها في الفكر والتعبير عنه، إذ كان تهميشها علة تخلفنا بعد ازدهارنا المشهود، وما هذا التفعيل إلا جوهر مشروع الأمة النهضوي، ولابد له من وعي بأهمية اللغة الفصيحة وإذكاء الحماسة لها ودفع شبح الهزيمة الذي يبعدها ويدني غيرها، ولابد من قرارات سياسية تكفل لها مكانتها الاجتماعية وفاعليتها، ونزه الأستاذ دعوته عن شبهة الدعوة لهيمنة لغوية بل هي دعوة لضوابط عامة تحفظ على المجتمع لغته، ولابد من توجه الدراسات نحو درس جاد للعربية في صورتها الفصيحة المستعملة في الوقت الراهن لاستخلاص قواعدها ووضع المناهج لتعليمها. وإنّ ما يدعو إليه أستاذنا لا يعبر عن دعوة إلى الانكفاء على الذات ولا عزلة عن حركة العالم المتطورة تطورًا متسارعًا بل دعوة إلى الجمع بين مقومات الهوية العربية والإسلامية ومكتسبات الإنسانية المتفاعلة، ويبدو أنّ هذا أمر يرد على الذهن، ونجد تركي الحمد تناول ذلك في قوله «قد يقول قائل إنّ بإمكاننا الدخول في التقنية دون التخلي عن ثقافتنا الذاتية، وفق مبدأ أنْ نأخذ أفضل ما عندهم وأفضل ما عندنا. وقد يبدو مثل هذا التقرير توفيق(2) مناسب وجميل، ولكن هل يمكن ذلك، هذا هو السؤال»(3). ويوضح أن التقنية ليست محايدة وإن بدت كذلك فإنها مجتلبة لخلفيتها الثقافية، وأن من الوهم الفصل بين التقنية والقيم التي تولدت عنها، وهنا يحاول معالجة ما يبدو مشكلاً، حين يسأل عن الحل. فهل يعني ذلك أن ثمن التقنية ضياع الهوية والثقافة الخاصة؟ يبين أن الجواب مرهون بالموقف من هذه الهوية والثقافة الخاصة؛ فإن كان المقصود بالثقافة الخاصة ثقافة مفارقة لإطار الزمان والمكان الراهن وهو ما يظهر من تحديد بعض المتصدين لمعالجة تلك المفاهيم؛ إن كان الأمر كذلك فإن الزوال هو النهاية الحتمية، ويعلل ذلك بأن «كلّ تحديد صارم ثابت لشيء متغير في طبيعته، لابد أن يصطدم مع عوامل التغير ومن ثَمَّ إمّا أنْ يسقط مباشرة، أو ينعزل، إن كان بإمكانه ذلك»(4). وأما إن نظر إلى الثقافة وفاقًا لما يقتضيه واقع الحال بوصفها واقعًا معيشًا لا مفهومًا متعاليًا مغلقًا وبوصف الهوية تعريفًا للذات لا تحديدًا نموذجيًّا ذهنيًّا مفارقًا للزمن الراهن والمجتمع الحاضر فإن الاستمرار هو النتيجة(5). ويعود تركي الحمد إلى تصحيح ما يمكن أن يرد إلى الذهن من لبس في أمر تلك الثقافة الموصوفة بالاستمرار؛ إذ يظن أنها تخلٍّ عن مقومات الهوية الأصلية أو الثقافة الأصيلة، فهو يرى أن الثقافة الجديدة لن تكون نسخة مكررة من القديمة ولا الهوية مطابقة لتلك الهوية ولكنها لن تلوي بها وسيظل العربي عربيًّا وسيظل المسلم مسلمًا، ولكنّ ذلك وفاق ما يقتضيه العصر الحاضر والحياة الواقعية لا الذهنية التاريخية، وضرب مثلاً باليابان التي استظهرت الحضارة الغربية وملكت ناصية التقنية من غير أن تغير من هويتها ما يعصف بها ويزيل رسومها(6). وإن من المشاهد أنّ كثيرًا من الموصوفين بالتعلق بالنموذج القديم هم من أكثر الناس إقبالا على منجزات التقنية، ولكن ذلك في حقيقته لم يتعد إطار الاستهلاك الذي يتساوى فيه الجاهل والعالم، ولم يبلغ درجة توطين تلك التقنية والصدور عنها والإبداع فيها، ولعل من أشق الأمور أن عجلة التطوير في تسارع مذهل يزيد من الفجوة الرقمية التي وصفها نبيل علي في كتابه وفي محاضراته المختلفة. (1) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ص90. (2) هكذا في النص ولعل الصواب توفيقًا مناسبًا وجميلا. (3) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ص 102. (4) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ص 102. (5) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ص 102. (6) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ص 102.