(هذا بحث ألقيته ضمن فعاليات كرسي صحيفة الجزيرة في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن) عَتَبَة: في سنوات النشأة الأولى يتكون المعجم اللغوي للطفل، ويتأثر بشكل ملحوظ بالمؤثرات التي تحيط به، وأكثرها تأثيراً وخطورة يتمحور حول الأسرة والإعلام اللذين يمثّلان حجر الزاوية في التكوين النفسي واللغوي للطفل، وإذا كانت الأسرة في كل حالاتها تبحث عن صالح طفلها وتبذل جهدها في ذلك - وفقت أم لم توفق- فإن الإعلام غالباً لا يعبأ بالطفل، ولا يهتم بأمره كثيراً، وتركيزه يتجه في الغالب الأعم نحو ربحيته أو جاذبيته ولو كانت على حساب الصالح العام، وهنا تبدأ خطورة التأثير السلبي الذي قد يتركه الإعلام في سلوك الطفل، وفي كثير من قيمه ومكتسباته، ومنها معجمه اللغوي الذي قد يتشوّه تشويهاً بيّناً، يفقد معه الطفل كثيراً من المفردات ويكتسب بدائل أخرى غير مناسبة. على أن هذا الحكم - وإن كان غالباً - فإنه ليس مطرداً، فالتأثير الإيجابي للإعلام في معجم الطفل اللغوي والصوتي قد يحضر، ولربما اكتسب الطفل معجماً لغوياً فصيحاً رشيقاً بسبب ما يتشرّبه من مفردات وأسلوب نطق في متابعته للإعلام، ومن هنا تحاول هذه الورقة رصد أهم التأثيرات السلبية والإيجابية التي يتركها الإعلام الموجه إلى الطفل في قاموسه اللغوي، ومدى تأثيرها في المدى البعيد في لغته. وتنطلق هذه الورقة من رصد دقيق لما تقدمه بعض القنوات المرئية الموجهة إلى الطفل في فضاء الإعلام العربي، مركزة على مكتسبات اللغة، وطرائق النطق، ومستويات الصوت، والمعجم اللغوي. من المُسلَّم به أن اللغة من الموضوعات ذات الأهمية البالغة في تشكُّل هوية الطفل، ومن المعروف أن للغة دوراً هاماً في تحديد شخصية الطفل، فبها يُعبّر عن أفكاره ورغباته وميوله، ومن خلالها يستوعب البيئة المحيطة به، للاستمتاع بها، وعن طريقها يتواصل اجتماعياً مع الآخرين. والطفولة هي مرحلة الإنسان الأولى، وبها يكون البدء في حفر أخاديد اللغة الأم في ذهن الطفل، وقد أجمع الباحثون على أن الطفل كالورقة البيضاء التي تحسن استقبال ما يخطّ عليها، وقد يكون من الصعوبة بمكان تغيير فكرة سقطت عليها، مما يعني أن الأمر يتطلب الكثير من الحذر والمزيد من الوعي، بخاصة إذا تذكّرنا أن المعركة لا تبدو متكافئة، نظراً للزخم الكبير الذي تنطوي عليه وسائل الإعلام الموجهة إلى الطفل العربي، في عددها، وجاذبيتها، ودهشة تأثيرها، أضف إلى ذلك التأثر السريع والشديد من الطفل بها، وهو الأمر الذي يجعل المسؤولية مضاعفة على المجتمع بمستوييه - الصغير والكبير - لحماية النشء، وصيانة هويتهم وقيمهم العليا، ومنها اللغة الأم. إن أخطر ما يمكن أن يتركه الإعلام الموجه إلى الطفل العربي في لغته، هو مأزق الازدواجية اللغوية التي تعيث إفساداً في قاموسه، وإرباكاً لتفكيره اللغوي ومستويات نطقه الصوتية، وهذا الخطر يتزايد أثره، وتعظم فرص وقوعه مع طول الفترة الزمنية التي يقضيها الطفل العربي أمام وسائل الإعلام مشاهِداً ومستمعاً وقارئاً، وقد أخبرت دراسات علمية موثقة أن الطفل العربي يقضي أكثر من ستة آلاف ساعة في مشاهدة التلفاز مع نهاية المرحلة الابتدائية، علماً أن هذه النسبة جاءت قبل انتشار البث الفضائي الذي استعمر السماء في يومنا هذا، أي أن عدد الساعات المؤلَّفة قد تضاعف أضعافاً كثيرة مع وجود قنوات متخصصة بالطفل، وهنا مكمن خطورة تاريخية نحن من سيدفع ثمنها حين نُعرِّض أطفالنا لاحتماليات تشويه متوقعة في هويتهم وقيمهم، ومن أهمها لغتهم التي يتحدثون بها وإليها ينتمون. وقبل أن ألج في تفاصيل هذه الأزمة القيمية بين المجتمع والإعلام، حري بي أن أشير إلى أن إكساب الأطفال اللغة العربية السليمة يفترض أن يكون هدفًا إستراتيجيًا للقائمين على أمر برامج الأطفال في وسائل الإعلام لأي بلد عربي كان؛ ذلك أن اللغة هي محضن الوعي والثقافة، وهي الحصن الحصين الذي يحمي وعي الطفل من الاختراق من قِبَلِ الثقافات الأخرى، فليس ثمة لغة محايدة، وإنما تتشرب اللغة قيم المجتمع وسماته وأفكاره، والإخلاص للغة معينة يعني الإخلاص لكل ما تحمله من قيم ومعتقدات وأفكار، ولذلك وجدنا الأمم تتسابق في إعلاء شأن لغتها وتعظيمها ليس لدى أفرادها وحسب، وإنما كذلك لدى البلدان الأخرى، فمن أتقن لغة قوم آخرين فهو منهم. و»العربية لسان»، وإذا كان الأمر كذلك، فإن من أولى الأولويات أن نسعى إلى إكساب العربي العربية السليمة مشتملة على معاني الإخلاص والوفاء لهذه اللغة، لكي ينشأ الطفل على حب القيم الأصيلة التي تجسِّدها لغته وتاريخه وحضارته، وبعكس ذلك فإن علينا ألا نستغرب مما بتنا عليه من سوء الحال على جميع الصُّعد، فاللغة وجه الحضارة الذي يحمل علامات التقدم والتفوق، أو الخمول والتراجع. وبالنظر إلى واقع وسائل الإعلام العربية الموجهة إلى الطفل، نجد أن الفضائيات التلفزيونية تنال نصيباً ساحقاً في العدد والعدة والتأثير، ويبدو للمتأمل في أكثرها أنها لا تهتم بأمر اللغة العربية، ولا تعتني بها، ولا يعنيها - وليس من أهدافها - أن تنمِّي قاموس الطفل اللغوي، أو حتى أن تحافظ عليه، ومع تعدد وسائل الجذب في تلك القنوات إلا أنه يندر أن يجد المشاهد شيئاً جاذباً على مستوى اللغة الفصيحة، ابتداء من أسماء كثير من هذه القنوات، حيث كثر الاسم الأجنبي سواء أكان بحروف لاتينية، أو كان مكتوباً بحروف عربية، ومروراً بمناطق ولحظات كثيرة في هذه القناة أو تلك، تتمثّل في البرامج، والأناشيد، والرسوم المتحركة، ولغة الإعلانات التجارية، ولغة المذيعين، وغيرها، وسأحاول عرض تفصيل ذلك وأمثلته وشواهده من خلال رصدي للمنجز الإعلامي الذي تقدمه بعض هذه القنوات، ومستفيداً مما كتبه الدكتور عبد الله الرشيد في كتابه (اللغة العربية في فضائيات الأطفال: الواقع والطموح): 1 - على مستوى أسماء البرامج: يحضر الاسم الأجنبي مزاحماً للاسم العربي بشكل لافت وغريب، والمحبط أن كثيراً من هذه الأسماء تجيء بحروف عربية، وهذا تكريس للخطأ، ودعم أحمق للازدواج اللغوي الذي من شأنه أن يضيع هوية الطفل اللغوية، ويبدد مكتسباته، ويبدو أن الأزمة نشأت مع استنساخ كثير من البرامج الغربية إلى الإعلام العربي، وكي يضمن المستنسخون رواجاً أكبر، وجاذبية أكثر، فقد أبقوا الاسم الأصلي، وإن كتبوه بحروف لاتينية تارة، وبحروف عربية تارة أخرى. 2 - على مستوى البرامج ولغة المذيعين: وأقصد بها هنا البرامج التثقيفية والمنوعات التي تقدم للأطفال، ويتصدى للتقديم فيها مذيع أو مذيعة، وهنا يظهر أثر المقدرة اللغوية، ويكون الرهان عليها كبيراً، ومن خلال الرصد والمتابعة يظهر جلياً أن مستوى مقدمي هذه البرامج في معظم القنوات متردٍ جداً، «فاللغة على ألسنة مذيعيها أمشاج من العاميات والفصيحة غير السليمة، بل إن بعضها لا يولي الفصحى عناية مطلقاً، بل بلغ الأمر ببعضها أن اتخذت اللهجات العامية أساساً تخاطب به الأطفال». ومن غير المقبول بتاتاً إطلاق دعوى عدم قدرة الفصحى على الاستجابة لعقلية الطفل ومتطلباته، أو أنها لا تلبي احتياجاته، أو أنها غير متسقة مع تحولات العصر واشتراطاته، فهذه حجج واهية، يقصد منها تخدير النشء، واستلاب مكتسباته القيمية، ومنها لغته الفصيحة، عنوان شخصيته، وأساس هويته. 3 - على مستوى لغة النصوص والأناشيد: يتعلق الأطفال كثيراً بالنصوص المغناة والمموسقة، وتؤدي الأناشيد في قنوات الأطفال العربية دوراً مدهشاً في رفع نسب المشاهدة، حيث يتعلق كثير من الأطفال بتلك الأناشيد، ويحفظونها عن ظهر قلب، ويكثرون من تردادها والتغني بها في حياتهم اليومية، ويبدو الأمر فرصة سانحة لاستثمار لغوي رابح فيما لو كانت هذه النصوص بلغة عربية فصيحة، وتم أداؤها بشكل صحيح فصيح، فيما تتحول الفرصة الاستثمارية الرابحة إلى كارثة حضارية وثقافية حين تكون تلك النصوص بلغة عامية ركيكة ومبتذلة، تختصر أقاليمَ عربيةً محددةً. والمتأمل في هذه الأناشيد التي تبثها قنوات الأطفال العربية يجد نزراً يسيراً منها حافظ على اشتراطات الفصحى، ونطق بها بشكل فصيح رشيق، وليس أمراً مفاجئاً أن نرى ونسمع هذه النصوص مترسخة في أذهان أطفالنا، يحفظونها، وينطقونها النطق الصحيح، مستعذبين لغتها، ومحتفين بلحنها. لكن الأنموذج الأعظم - للأسف - هو تلك النصوص المنشدة بلغة عامية ركيكة، تكرّس للإقليمية المقيتة، وتغرس في ذهن الطفل ذاكرة مشوهة، «ويزيد الأمر فساداً في الأناشيد التي تظهر أشطرها مكتوبة على الشاشة متزامنة مع الإنشاد؛ فهي تكتب بعاميتها الرديئة (كما تنطق) التي تسهم في إضعاف مستويات الأطفال لغوياً»، في جانبي النطق والكتابة. 4 - على مستوى لغة الرسوم المتحركة: وحين يكون الحديث عن الرسوم المتحركة، فإننا بالضرورة نتحدث عن أكثر عناصر الإعلام الموجه للطفل تشويقاً ومتابعة، وبالضرورة أيضاً: أكثرها تأثيراً في ذهنيته وعاطفته ولغته، والحقيقة أن ثمة تحولاً إيجابياً جيداً في لغة تلك الرسوم المتحركة، حيث تحول عدد لا بأس منها إلى الحديث بالفصحى، وبخاصة حين يُصاغ الحديث بلغة سهلة وجاذبة، ويبدو أثر ذلك في طريقة تقليد الأطفال لطريقة حديث هذه الشخصية أو تلك، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن كثيراً من الرسوم المتحركة في إعلامنا العربي الموجه إلى الطفل تعتمد اللهجات العامية الإقليمية، وهذا أسهم في تكريس العامية الإقليمية من جديد في أذهان أبنائنا، ومكمن الخطورة هنا يتمحور في أن أغلب من يشاهد الرسوم المتحركة هم من الأطفال بين 3 و8 سنوات، وهي مرحلة حساسة جداً في عمر الطفل وقدرته على الاكتساب والتأثر، حيث «يرتبط فهم الأطفال للألفاظ بنموهم الإدراكي»، وحين يتلقون معلومة ما في مرحلة مبكرة، ويتم تكريسها بالتكرار والجاذبية، فإنها تترسخ وتبقى في ذاكرتهم مع الزمن. الحلول والمعالجات: إن أزمة الإعلام الموجه للطفل لا تقتصر على الفضائيات المرئية فقط، بل إن الأمر يتجاوزها - وهي أساس - إلى غيرها من الوسائل، لكني اقتصرت في هذه الورقة على الفضائيات، نظراً لأثرها البالغ والكبير من جهة، ولضيق حيز الورقة من جهة أخرى، وكي يكون الطرح علمياً وموضوعياً، فإنني أسوق شيئاً من الحلول المقترحة، والوسائل العلاجية التي ربما تسهم في إنقاذ ذاكرة أجيال المستقبل من الضياع والازدواج والتشويه. وقبل أن أطرح الحلول والمقترحات العلاجية يجدر بي أن أشير إلى أننا لا نستطيع هنا أن نلوم أحداً على غياب وعيه بخطورة الإعلام وعظيم أثره؛ فهذا نمط تفكيري يسود المجتمعات العربية منذ وقت بعيد، وتغييره يحتاج إلى إنفاق وقت طويل جداً، وجهد مضاعف، وربما يجدر بنا أن نؤسس لهذا الوعي في الأجيال القادمة لا في هذا الجيل. ويقع الإعلام الحكومي بأنواعه المختلفة في أكثر الزوايا حرجاً وضيقاً، فهو الذي يُناط به تقديم رسالة الإعلام الواعية، وهو الوحيد من نوعه الذي لا يهجس بالربحية، ولا يبحث عنها، والأطفال بالنسبة إليه هم هدف مفترض وإستراتيجي يجب عليه أن يتوجه إليه ويرعاه، ويؤسسَ لوعيه، وتكونَ منجزاته وبرامجه منسجمةً مع ما يأمله المجتمع من صنّاع مستقبله، وينتظرُه منهم، كما أن التحكم بهذا النوع من الإعلام، وتوجيه ما يطرح ويقدم، هو السياق الممكن، نظراً لأنه خاضع للسلطة السياسية دائماً، والاجتماعية أحياناً. ويمكن لهذه الورقة أن تلخص أهم المقترحات والتوصيات وطرائق المعالجة، لمستقبل أكثر نزاهة ونقاء وفائدة للإعلام العربي الموجه إلى الطفل: 1 - اعتماد اللغة العربية الفصيحة لغة وحيدة لبرامج الأطفال الإذاعية والتلفزيونية في البلدان العربية. 2 - تشجيع الإنتاج التعليمي والترفيهي الموجَّه للأطفال على الأداء باللغة العربية الفصيحة، مع الحرص على عرض تلك المواد بطريقة جاذبة وشائقة. 3 - التوصية للجهات المعنية بفرض نوع من الرقابة اللغوية على المنتجات الثقافية المصورة والمذاعة والمطبوعة للطفل العربي دعماً للغة العربية. 4 - إنشاء قنوات تربوية متخصصة للأطفال على أن يكون التداول فيها بالعربية الفصيحة. 5 - إلزام الإعلاميين بالعربية الفصحى في برامج الأطفال. 6 - توجيه برامج إذاعية وتلفزيونية لتعليم اللغة العربية، بهدف تحبيب الناشئة بلغتهم، ولتعليمهم أصول اللغة ومناقشة القضايا الثقافية والتراثية بصفة مستمرة. 7 - مطالبة الدول العربية سنّ تشريع يمنع استخدام غير اللغة العربية في الإعلانات بجميع أشكالها، وإعادة النظر في كل الإعلانات التي تقدمها التلفزيونات العربية، وبخاصة الموجهة للطفل، ليتم تقديمها بلغة عربية صحيحة، ومبسطة وسلسة في الوقت نفسه. 8 - إنشاء مسابقات للقراءة والكتابة باللغة الفصحى، من خلال وسائل الإعلام على مستوى الدول العربية؛ لتشجيع الأطفال على النطق والكتابة بها، والاستماع إليها. د. صالح بن عبد العزيز المحمود - وكيل كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، نائب رئيس النادي الأدبي بالرياض