وقع عدد كبير من المتابعين والمعنيين - وأنا منهم - في حيرة شديدة قبل خمس سنوات ونيف عندما وقعت اتفاقات أوسلو الأم - إذا جاز التعبير -. أيامها لم نستطع ان نؤيد أو نشجب تلك الاتفاقات، وقد غبطنا هؤلاء الذين لم يأخذوا أي وقت للتفكير مقررين انها خيانية، كما غبطنا أيضاً الفريق الثاني الذي أكد ان الاتفاقات سوف تقود - لا محالة - الى دولة فلسطينية مهما طال الزمن. إلا أن فريقاً من وسط هذا الفريق لم يكن متأكداً تماماً، إذ أفصح بعضهم عن احتمالات متناقضة، فإما أن تقود أوسلو الى دولة وإما... الى كارثة. أما نحن، خصوصاً المثقفين الهاملتيين نسبة الى رمز التردد والحيرة هاملت فاتخذنا موقفاً هو في الحقيقة لا موقف منتظرين ان تكشف الأحداث عن حقيقة ومغزى تلك الاتفاقات. وقد ثبت ان ترددنا كان في محله، اذ اثبتت الأحداث ان أوسلو لم يقد الى أي وضع يُعتدّ به، لكننا أيضاً لم نهاجم الاتفاق صراحة ولم نعمد الى الشماتة مقنعين أنفسنا أن نتانياهو هو السبب متجاهلين ان أركان السلطة الفلسطينية يتحملون في كل الحالات النتائج بغض النظر عن سياسات نتانياهو أو غيره. كانت هذه حالنا في السنوات الخمس العجاف الأخيرة - اما الآن فإن وضع الحيرة والتردد يتضاعف ويتعمق، لأن واعيتنا السياسية باتت أميل الى توقع أسوأ الاحتمالات، وخاصة اننا عرفنا بالملموس اننا أمام سياسي اسرائيلي يعتبر خبيراً في المراوغة والتسويف والتطنيش سواء لأسباب معروفة أو حتى من دون أسباب. كما أن نتانياهو أثبت أنه سياسي مناور بعيد المدى - وهذا ما ينبغي الاعتراف به - وما قام به - في جوهره - ليس إلا معادلاً سياسياً لنهج شق الطرق الالتفافية التي أصبحت احدى أهم سمات نهج نتانياهو في التوسع وتثبيت المستوطنات وتوسيعها. وفي ما يبدو فقد أراد أن يفرغ مناورة عرفات في اعلان الدولة في أيار 1999 من مضمونها سلفاً، أو بعبارة سهلة: أراد أن ينفس حال التعبئة التي كان من المفروض ان تتصاعد حتى ذلك التاريخ. ويبدو أنه ثبت له أن التهديدات التي صرفها مهدداً باجتياح مناطق الحكم الذاتي - لو تم اعلان الدولة - لم تأت بالنتائج السريعة التي توخاها.. فعمد الى خطة بديلة واسعة المدى تمكنه من احتواء المسعى الفلسطيني وتنفيسه وإعادته الى المربع الرقم واحد، ومن الواضح انه اعتمد على الادارة الأميركية المهلهلة كمساعد مخرج لا أكثر في المناورة كلها، اذ أن مسؤولي هذه الادارة لا يزالون يصرفون التصريحات التحذيرية من أجل احتواء الموقف. وفي هذه الأثناء تقوم أجهزة الأمن الفلسطينية باعتقالات واسعة وتضرب طوقاً من الحصار على الشيخ ياسين، الأمر الذي يوتّر الأجواء يوماً بعد يوم. وهكذا فإن نتانياهو يطلب الدفع مقدماً من أجل ان يحصل الفلسطينيون على شيء من الأرض - هذا إذا حصلوا على أي شيء من حيث المبدأ. لسنا في حيرة فقط، ولكننا بتنا متشائمين ونخشى أن يكون نتانياهو قد خدع أركان السلطة خدعة كبرى ليس من السهل أن يتصورها أي منهم. *كاتب فلسطيني.