تراجع الاهتمام بالوضع الأمني في الجزائر ليترك مكانه لمسائل أخرى شائكة، قد تؤدي الى مزيد من عدم الاستقرار. غير أن ذلك لا يعني عدم مواصلة مكافحة الإرهاب أو تخلي الجماعات عن ممارستها لأعمالها المتكررة. لكن في الوقت ذاته لم يعد ذلك الوضع - على رغم استمراره وحلاكته واتساعه - مثار اهتمام الأوساط السياسية، إذ يبدو التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة أهم من أي عمل آخر بالنسبة الى تلك الأوساط، إلا انها وهي تسعى لذلك، في إطار التحالفات والتكتلات تجد نفسها تواجه وضعاً لم تكن تتوقعه بعد إبعاد بعض الشخصيات القيادية من السلطة، وأيضاً بعد الاتهامات التي وجهت للبعض. وفي هذا الاطار، كشفت مصادر جزائرية مطلعة عن محاولات الرئيس اليمين زروال تجاوز ما يمكن حدوثه على الجبهة الاجتماعية، وذلك بعد أن وصلته تقارير تفيد أن هناك أطرافاً سياسية فاعلة تسعى جاهدة لتوظيف الذكرى العاشرة لحوادث تشرين الأول اكتوبر، فعمل على نقل الجزائر الى ما بعد ذلك التاريخ بأشهر، بإعلانه في 11 ايلول سبتمبر الماضي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية شباط فبراير المقبل ويحتمل ان تؤجل الى ما بعد ذلك. غير ان تلك الخطوة - التي جاءت حسب البعض مفاجئة - لم تحقق الى الآن الهدف المرجو منها، إذ تعيش الجزائر هذه الايام حركة إضرابات غير عادية تذكرنا بتلك الإضرابات التي شهدتها البلاد في نهاية 1979، وايضاً بعد تشرين الاول 1998، وفي ازمة صيف 1991، وأزمة الشرعية غداة إلغاء النتائج الأولية للانتخابات التشريعية في كانون الثاني يناير 1992. غير أن هناك فارقاً بيناً هو أن كل تلك الاضرابات السابقة حركتها قوى سياسية بهدف تغيير المسار السياسي لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، وإن كانت على المستوى الشعبي بهدف الاصلاحات الاقتصادية. أما الإضرابات الحالية، فإن الذي يحركها هو الوضع الاقتصادي الصعب، لكن النتيجة - إن تحققت - لن تكون لمصلحة تلك الطبقات المحرومة التي تواجه وضعاً اقتصادياً صعباً، وإنما لمصلحة الطبقة السياسية المتحالفة مع البرجوازية، التي تحارب الآن على أكثر من صعيد. وتبدو الصورة واضحة في أن حرب المواقع عجّلت بتناثر الأوراق السياسية، التي كانت الى وقت قريب صاحبة النفوذ، ولا شك في أنها ساهمت في جوانب من حل الازمة، لكنها أيضاً أدت بالبلاد الى مزيد من التأزم على مستويات أخرى، وذلك لتعسفها في استعمال الحق والسلطة، وتكوينها لولاءات تعمل لمصلحتها على حساب الدولة. فمثلاً الاتهامات التي وجهتها الصحافة المكتوبة - الفرنكفونية خصوصاً - الى وزير العدل محمد آدمي، بغض النظر عن صدقها، إلا أنها ما كانت لتدفع برجال القضاء الى الإضراب من أجل الدفاع عن شرف المهنة، معتبرين أن تلك الاتهامات تسيىء اليهم. وهو كما نلاحظ خلط واضح بين القضايا الخاصة والقضايا العامة، ثم كيف للقضاة أن يضربوا ثلاثة أيام متتالية، والصحافة تدعي أن الوثائق التي تدين وزير العدل السابق تحصلت عليها من القضاة أنفسهم. وحسب مصدر مطلع فإن بعض الاطراف الفاعلة داخل السلطة يعمل على تشويه صورة الرئيس زروال من خلال المسؤولين الذين عملوا معه في فترة حكمه، وقد يكون، أو لا يكون، لتلك الاتهامات مبرر لكن الواضح أيضاً أنها ترجع بالفائدة على فريق بعينه، وقد يؤدي ذلك الى نتيجتين أولاً: ألا يكون الرئيس المقبل من الأشخاص الذين نالوا رضا الرئيس زروال. وثانياً: أن يكون الرئيس المقبل من التيار الديموقراطي العلماني. إضراب آخر ايضاً هو مثار استفهام، وهو إضراب الاساتذة أولاً ثم الطلبة بعد ذلك، والاسئلة لا تتعلق بأحقيته من عدمها، وإنما في تزامنه مع إضرابين سابقين هما إضراب شركة الخطوط الجوية الجزائرية قبله، ثم إضراب القضاة أثناءه، ناهيك عن إضراب الصحافة المكتوبة. إذ من غير المعقول أن تتزامن كل هذه الإضرابات في وقت واحد بحجة عدم التزام الطرف الآخر، أي التزام الحكومة متطلبات تلك الفئات الاجتماعية. وإذا كان الإضراب في الجزائر حقاً يكفله الدستور، فإن نتائجه السلبية الآن تتجاوز مسألة الدستور، لتصب في عمق تفجير الجبهة الاجتماعية لمصلحة أحزاب سياسية، أو قوى داخل السلطة نفسها تريد استمرار الوضع على ما هو عليه، الى أن تتمكن من اختيار مرشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة. من ناحية أخرى، فإن إضراب الصحافة، الذي وظف سياسياً وهو حق يراد به باطل، لا علاقة له بحرية التعبير ولا بالحقوق المهضومة للصحافيين، وإنما يعود الى مصالح "البارونات" الذين أوجدتهم حرية الصحافة، وتحولوا من صحافيين مهنيين الى رجال أعمال، ويرفضون الآن دفع حقوق المطابع التابعة للدولة. ولا أحد ينكر أن ذلك تزامن مع سعي بعض الأطراف الى لجم الصحافة وكبحها، ولكن ايضاً ليس ذلك المبرر الوحيد، إذ يمكن عودة تملك الصحف بتسديد ما عليها من ديون. هكذا إذن تبدو الإضرابات في الجزائر محاولة لإفراغ السلطات من قدرتها على التحكم والتشكيك بعد ذلك في قدرات أي مسؤول على حل الأزمة. الى جانب ذلك فإن الشخصيات القوية داخل الحكم أبعدت أو أدعت الاستقالة، لتقوم بحربها الجديدة من خلال استعمال نفوذها، واستعمال مؤسسات الدولة. ويبدو أن السياسيين الجزائريين، سواء الذين هم في السلطة، أو الذين يحلمون بالوصول اليها لا يدركون أن تفجير الجبهة الاجتماعية لمصلحة الموقف السياسي لهذا الفريق أو ذلك، سيؤدي الى زعزعة كاملة للاستقرار. وإذا كان الارهاب لم يستطع إسقاط الدولة خلال السنوات الست الماضية، فإن تعطيل حركة المجتمع سيؤدي لا محالة الى سقوط الدولة، وساعتها يكون البحث عن البديل غير مطروح أصلاً، لأنه لا بديل عند ذلك. تتزامن تلك الاضرابات مع الذكرى ال 44 للثورة الجزائرية، التي كان الأمل قائماً على الاحتفال بها في ظروف أحسن من السنوات السابقة. لكن يبدو أن الجيل الجديد الذي لا صلة له بتلك الثورة في عطائها وقيمها، وأيضاً الجيل القديم الذي تخلى عن قيمها لمصلحة الثروة عملا معاً على إفقادها قيمتها. وإذا كنا نعذر الجيل الجديد في أخطائه، فإنه يصعب على الجزائريين أن يقبلوا بأخطاء الذين حرروا البلاد خصوصاً حين تكون متعلقة بالقضايا الشخصية، وليست أخطاء وقعت أثناء العمل من أجل مصلحة البلاد. مع ذلك فإنه ينبغي عدم الإسراع في إعطاء أحكام حتمية في الوقت الراهن، ما دام هدف كثير من المعادين لنتائج تلك الثورة هو تشويه صورة رجالاتها. لا أحد ينكر أن هناك من جرفه التيار، ولكن أيضاً هناك من يرابض مدافعاً عن بقاء الدولة الجزائرية، من دون تحقيق مكاسب شخصية، على رغم أخطاء الذين حوله. وخير مثال لذلك الرئيس اليمين زروال، الذي يعتقد أنه يحارب في الوقت الراهن وحده، على رغم أن الذين كانوا محل ثقة بالنسبة اليه هم الذين يسببون له وللبلاد مزيداً من المشاكل والآلام والأزمات، ويحصد الشعب ما زرعت أيديهم. وإذا استمرت الإضرابات وشملت كل قطاعات الحياة، فسيقفزون كعادتهم من المركب ويتركون الجزائر تواجه الطوفان. * كاتب وصحافي جزائري مقيم في مصر.