تحمل قصة جوردي فيرير تناقضات كثيرة جعلتها اكثر اثارة وغنى وتستحق الدرس لاختلافها عن تجارب زملائه في "المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق" ايفياد الذي يعود تأسيسه الى العام 1922. لا تقتصر فرادة قصة الشاب السويدي على الموضوع الذي اختاره لنيل درجة دكتوراه وهو "المراثي في الشعر الجاهلي" بل تبدأ من كون والده اسبانياً واثر ذلك في "عشقي المبكر لموسيقى اللغة العربية"، مروراً بالخصام والود مع هذه "اللغة الحية" مرات عدة والتنافس الذي كان قائماً بينها وبين الفيزياء والرياضيات، وانتهاءً بالغنى نتيجة التناقض الذي توفره الاجواء الديبلوماسية بفضل وجود زوجته ايريكا فيرير كسكرتيرة اولى في السفارة السويدية في دمشق. وبفضل الكلمات التي سمعها من أحد الزعماء العرب خلال زيارة هذا الاخير الى بلاده قبل نحو عقدين، والانطباعات التي تركتها زياراته ووالده في طفولته الى الاثار الاسلامية في اسبانيا، تكوّن "شيء خفيّ" يشده لدراسة اللغة العربية الى جانب الرياضيات والفيزياء في العام 1984 في جامعة ابساله اقدم الجامعات السويدية التي تبعد نحو سبعين كيلومتر عن العاصمة. كانت رغبة فيرير "اللحاق بصدى تلك الموسيقى الباقية في النفس منذ الطفولة"، عبر شراء عدد من كتب تعليم اللغة العربية. واول كلمتين يتذكر انه تعلمهما هما "تفاح" و"سمك" دون ان يعرف "لماذا هاتان الكلمتان بالتحديد". وقبل ان ينهي سنتي الدراسة الجامعية العام 1986 كان قادراً على قراءة "قصص أهم" مثل "كليلة ودمنة" لابن المقفع و"السيرة النبوية" لابن هشام وحفظ عدداً من الآبيات لكبار الشعراء العرب مثل السموأل. اشرف على دراسته في قسم اللغات السامية في جامعة اوبسلاه استاذان هما السويدية ايفا رياض و المصري عبدالحميد. وربما كانت "الميزة - المشكلة" التي صادفته وقتذاك انه كان الطالب الوحيد في قسم تعلم اللغة العربية. وفي ضوء واقع التنافس بين الميول الرياضياتية - العلمية والادبية - العربية، مالت الكفة وقتذاك الى العمل في الكومبيوتر ذلك تحت ضغط "ضرورة العمل والانتاج"...واستمر في ذلك لنحو عشر سنوات انتهت بان سأل نفسه الاتي :"هل هذا ما اريد فعله في حياتي؟ هل اقوم بما احب؟". وما حسم الجدل الداخلي هو بيت الشعر: "نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحب الاّ للحبيب الاوّل" فقرر الرجوع الى حياة الطالب لاستكمال دراسته عائداً الى "العلاقة الحميمة مع العربية". فاجرى بحثاً علمياً عن "قواعد أنْ قبل فترة النحويين" اعتماداً على ورودها في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي مستنداً الى امهات الكتب العربية لسيبويه والزمخشري والمبرّد وذلك باشراف الاستاذ تريغفه كرونهول. ونتيجة نجاح بحثه قُبل في العام 1995 في الجامعة لدراسة الدكتوراه واجراء بحث عن "فن الشعر في المراثي الجاهلية" باشراف ايساكسون الذي اتفق معه على دراسة 300 مرثية: مئة منها للشعراء، ومئة لشاعرات متفرقات ومئة للخنساء وحدها. لكن، كان على الشاب السويدي ان يحصل على تمويل، فتقدم الى قسم اللغات السامية في جامعة اوبسلاه فنال منحة للدراسة. ولم تمنعه فرقته عن زوجته من المجيء الى دمشق العام 1996، الى ان لحقت به ايريكا العام الماضي. وبعد انتهاء سنة المنحة الجامعية، حصل فيرير على تمويل لمدة سنة ونصف السنة من "المعهد السويدي" الذي يقدم منحاً للتبادل الثقافي مع عدد من دول العالم. وبعد انتهاء المنحة سيطلب تمويلاً اخر من جامعة ابساله للحفاظ على الاتصال مع الاستاذ المشرف عبر كل الطرق من رسائل وفاكسات وبريد الكتروني ولقاءات شخصية تعقد دورياً في السويد. ويرى فيرير ان الشعر الجاهلي "لم يكن مفهوماً منذ تدوينه في البصرة والكوفة، وانه لايزال على هذه الحال حتّى السنوات الاخيرة". وقال : "ان الشعر الجاهلي هو نص مثل اي نص شعري مركب من مستويات معنوية ورمزية لم يبدأ شيوعها الاّ في العقدين الأخيرين. لذلك يجب علينا ان نطبّق على هذا الشعر مناهج ادبية مثل التي نطبقها على الادب المعاصر". لكن، لماذا المراثي؟ اوضح الشاب السويدي: "ان تجربة الموت تعم البشر جميعاً، ومن خلال آراء علماء الانسان الانثروبولوجيا لمعرفة انفعالات الانسان حين يواجه الموت، نستطيع الحصول على مفتاح - مدخل لقراءة الشعر الجاهلي"، واستدرك "ما أرمي اليه ليس المعتقدات الشائعة في الجاهلية، بل كيفية الخطاب الذي بنى به الجاهليون واقعاً ادبياً يصلح لهم بين التجارب الكونية المتباينة". ومن الاسباب الاخرى التي اثارت اهتمام فيرير هي قلة الشعر النسائي غير الرثائي المنقول عن الجاهلية، لكن الاهم بالنسبة اليه هو "امكانية تمييز وجود مدارس مختلفة بين قائلي المراثي مثل مدرسة قبيلة هُذيل المميزة على ماقاله الاخرون"، اضافة الى امكانية تلمس تطور المراثي عبر السنوات. وقال فيرير: "ربما ستلعب دراستي دوراً في ايضاح ذلك بشكل اكبر". ولانجاز بحثه ينكب الشاب السويدي على الخوض في مكتبة "ايفياد" في دمشق التي تضم بين ثماني ومئة الف كتاب وذلك بالتعاون مع الاستاذ سليم بركات. ويخرج منها الى منزله في منطقة "الروضة" حيث مكتبته التي تضم امهات الكتب العربية... وقد اضفت عليها الاضاءة الخافتة الشرقية اجواء اشبه بالايام التي كان فيها مؤلفو امهات الكتب يسطرون علمهم على ورق سميك لا يفنيه الزمن.