يقع الفلسطينيون على الخريطة السلمية في أسوأ مكان. هو المكان العسير "للتفاوض والتعايش" في وقت واحد. مصر كانت تفاوض بعد ان يركب الرئيس طائرته وينطلق من احد "عدة" مطارات في دولته. العاهل الاردني كذلك. بيغن ورابين وبيريز ونتانياهو. كلهم ينطلقون من قاعدة غير منقوصة، ومن تأهبّ مريح، ومن تمثيل لحكومة وارض وشعب المقومات والمكونات القانونية للدولة. اما الفلسطينيون فانهم يبدأون من الحاجز الذي يحرسه جندي، حتى واشنطن وهم يعلنون قبول ما لم يكونوا يفكرون به ايام غابات البنادق العالمية. المكان العسير في "التفاوض" على ارض مختلف على ملكيتها: هل هي ل "الاله" اليهودي واعطاها هدية. ام للبشر الذين تكاثروا عليها وعاشوا فيها آلافاً من السنين؟ والصعوبة هنا، ان الصراع ليس بين غالب ومغلوب، بل بين غالب معه "إله" يخصّه يدخل ويخرج من التوراة حسب الظروف والاحوال… وبين مغلوب ومشتّت ومستفردٍ به هو الشعب الفلسطيني، ومعه فقط "الاصرار" على البقاء الذي يرتفع وينخفض على جلجلته حسب الظروف والاحوال. التفاوض على ارض نفخت فيها الايديولوجيا والدين ثلاثين عاماً حتى صارت مقدسة "ارض اسرائيل الكبرى" وثبّت الضعف العربي وانعدام القدرة الفلسطينية واقعية تغيير الواقع فيها. مما اصاب الحق بنقص فادح على الطاولة التي تعترف بحق وتنكر آخر مماثلاً. والمكان العسير "للتعايش" فهو مستند الدلالة اليومي على احتمالات الصداقة او العداوة. هنا العصفور والصقر والحقل والنار. وتحت الاشراف المباشر للتعصب اليهودي تتم عملية انتاج شرعية للتصلّب الفلسطيني، في جدل لا ينتهي حول الاكتاف: هل هي لاستقبال الحمام ام لحمل البنادق؟ التعايش… تجربة انفرضت بقوة الاعتراف المتبادل في اوسلو: اسرائيل باقية. الفلسطينيون باقون. والحل هو كيف يتم ذلك؟ وها هي الملامح تتشكل قطعة قطعة برموز خرائط الانسحاب المؤلفة من أ. ب. ج كأنما هي ابجدية نهاية الاحتلال، في آخر المطاف. التعايش "السلبي" سابقاً، والمتحول الى "ايجابي" حالياً بنسبة ما تقلّ او تكثر عمليات الاستيطان والقمع والمصادرة، والرد من الطرف الفلسطيني على كل ذلك… هذا التعايش يضغط على شكل التفاوض ويجعل التفاوض والتعايش امتحاناً عسيراً في كل لحظة. الى ان جاءت الحفلة الاخيرة في واي - ريفير الكثيرون رأوا ارتجاف عرفات وهو يخطب ويوقّع. لكن احداً لم يرَ ان كان نتانياهو ارتجف. وقد يكون الامر قد حدث، وهناك سبب واحد يدرك اهميته الاسرائيليون: سقوط قطعة من "ج" الاسرائيلية الى "أ" الفلسطينية. وهو ما يعني سقوط الايديولوجيا اليمينية، بل كل الايديولوجيا في اسرائيل، القائلة بأرض اسرائيل الموحدة والتامة، الارض التي في نظر شامير تكاد لا تكفي لليهود. وهناك سبب آخر هو التخلي بعد معاندة، من رفض اوسلو لانتاج طريقة خاصة بنتانياهو في التفاوض، فقد وصل بعد عشرين شهراً الى النقطة التي عاندها… هي الاتفاق الاخير. يقول اوري سفير في "يديعوت احرونوت" 18/1/1998: "… ومع ذلك عندما سيوقع نتانياهو الاتفاق فانه سيكون اتفاقاً مهماً: ففي الارض الخصبة حول واي بلانتيشن يدفن زعيم اليمين الاسرائيلي ايديولوجيا، وبالتدريج، ارض اسرائيل الكاملة اليمينية. واسرائيل ستعود، وان كانت جريحة وعرجاء، الى طريق اوسلو. بل والى المفاوضات مع سورية…". الكثيرون رأوا القاع المحتمل للتنازلات الفلسطينية، تأسيساً على ما كان منذ اوسلو، واحياناً بسبب لغة التخوين السائدة. والحديث شبه المقدس عن الميثاق الوطني المطلوب تغيير نص ازاحة اسرائيل وتحرير فلسطين، يستدعي مرارة لا تتعلق بهذا الميثاق وحده، بل بكلمات شرف مكتوبة، ودساتير موجودة ولاءات معروفة وكلها انتهكت بأمر الواقع المصنوع عربياً - عربياً بالدرجة الاولى. وبطبيعة الحال من غير الممكن كيل المدائح للهزيمة، ولا تقريظ التنازلات، ولا الاعتذار من الدم بالماء. ولكن، ثمن كل ذلك سيدفع عاجلاً ام آجلاً. واذا كان في وسع الفلسطينيين الحصول على قسم من الضفة الغربية اليوم فان القسم الآخر سيأتي ليلتحق بأرض غير قابلة للتجزئة، كما ان احداً غير قادر على التفريط بها. وذلك، ايضاً لانها لا تكفي الفلسطينيين. اعتقد ان اسرائيل قد بدأت العد التنازلي مذ جلست مع عدو الامس وضحيتها. وهناك من قال بعد اعلان الدولة الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1988… "ان دولة فلسطينية في الطريق، واليوم هي على الارض الناقصة. وغداً لا بد من فصل الشعبين في دولتين". وللتذكير ثمة امثلة: جنوب افريقيا. وللنسيان ذات يوم: خلاف "حماس" و"فتح" على طرفي الجهاد والمفاوضات، الخلاف الذي يجب ألا يقدم هدية لعدو لا يوقّع الا لكي يلحس التوقيع من اول طلقة فنعطيه العذر عما سيفعله لاحقاً وقريباً بدون عذر!! * كاتب سوري.