عربة اليد المركونة الى حائط بيت القاضي، كانت تفوح منها رائحة البلح الأمهات البني اللامع، والرُطّب الاسود قِشرته المغضّنة تنفرج او تلتصق بلحمه المتماسك الغض، الاحجار العتيقة تجاور الثمر اللدن الطريه والزمن العريق مازال ضرورياً منتصباً فيه فتوة الشخيوخة وعنفوانها على رغم التآكل والتحات، بإزاء شيء بطبيعته عابر زائل وبضّ السذاجة وعلى عكس الحيطان يأتي لكي يذهب لا ليبقى. كان مدحت شعبان قد جاء من اسكندرية، هاتفني في البيت، وتغدينا معاً ونزلنا ليشتري الميزان الحساس الذي كان يحتاجه في معمله في وزارة الصحة، في ابيس، لحساب الوزارة طبعاً. كنا قد خرجنا من معتقل "ابو قير" منذ سنوات قليلة، سبقني الى الخروج، ونقلت الى معتقل الطور، ثم أُعِدت الى ابو قير، وبقيت فيه وحدي تقريباً مع قلة قليلة لم تكن تربطني بهم الا صلة الحبس، اما اصدقائي فكانوا جميعاً في الخارج. تلك الايام الاخيرة الموحشة كانت قاسية. كل الزمن، سنتين الا اقل قليلا، كان - بشكل ما - بهيجاً مشرقاً بالامل والارادة القوية والعزم المعقود على الكفاح على رغم السجن والحصار وغارات عساكر الامن الليلية "المفاجئة" بحثاً عن الممنوعات، وكنا دائماً نعرفها مقدماً ونحسب حسابها - البركة في عساكر الحراسة المنتظمة الطيبين وفي القرشين لزوم الشيء - وكنا نخفي "الممنوعات" ندفنها في رمل الفناء وراء حيطان الثكنات الانكليزية التي كانت هي المعتقل، اما الممنوعات فلم تكن الا الاوراق التنظيمية والنظرية الثورية، والكتب الماركسية والتروتسكية،اما كل شيء آخر تقريباً، فقد كان مسموحاً به في معتقلات فاروق، من 1948 الى 1950، وما زلت احتفط بكتب من القصص والشعرالانكليزي عليها ختم "معتقل ابو قير" وامضاء القومندان. ومع أن مدحت كان من "حدتو" بينما كنت تروتسكياً فقد توثقت بيننا زمالة وصداقة عميقة وحميمة كنت أطوف معه حول المعتقل في العصاري، أي قبل الطابور المسائي الذي نقف فيه على هيئة صفوف من خمسة، يعدنا فيه الضابط النوبتجي والعساكر، ينادوننا عليه "سانك سانك" اي خمسة خمسة، لماذا بالفرنسية، ربما لأنه في الايام الاولى كان معنا اليوغوسلاف، شيوعيين او من خصوم تيتو على السواء، والروس البيض المهاجرين الى اسكندرية منذ سنوات طويلة هرباً من الثورة البلشفية العتيدة، هم ايضاً اعتقلوا في 15 ايار مايو 1948، وطبعاً الشيوعيون القلائل من الحلقات الماركسية الاجنبية، وكان معنا ايضاً عدد من شباب اليهود وكلهم، من جماعات الكشاف الاسرائيلية ونادي مكابي والجمعيات الخيرية على السواء. في تلك اللحظات التي تسبق طابور "سانك سانك" يوشك ضياء النهار ان يغيب، وتسقط علينا انوار الكشافات الساطعة الدوارة من الابراج العالية على اركان الاسوار الشائكة - فقط من السلك الشائك - ويقف في الابراج عساكر الجيش بالمدافع الرشاشة، يهتفون بين الحين والحين بصوت عال، كأنما ليطردوا عنهم، هم، وحشةً ما: "مين هناك". في تلك اللحظات الثقيلة بالحنين غير المفهوم وغير المحدد، وبالاشواق غير المفصح عنها، كنت اطوف مع مدحت شعبان حول حوش المعتقل، يسألني عن برنارد شو مثلاً، فأفيض في الحديث عنه، او عن معنى الرومانسية، او عن الشعر الجاهلي، من اين كانت هذه الاحاديث تتدفق؟ مخزون من القراءات والذكريات والافكار تصورت انني نسيتها، يهضب فجأة، عن الفابيين والبرناسيين، عن ألدوس هكسلي، او الديسمبريين، عن زينوفييف وبوخارين، وكان التقارب العقلي والجسدي بيننا يخفف - لحظات - من وطأة الوحشة وأوجاع الروح الدفنية. كنا في صيف ذلك العام وحتى اواخر تشرين الاول اكتوبر نقضي النهار بالشورت القديم القصير وقميص نصف كم والصندل او حتى الشبشب المشحتف، وكأننا حُفاة، وكنا نسير ذراعاً في ذراع، وتيار كهربي من التفاهم الذهني والجسماني معاً يسري بيننا، على رغم الاختلاف في الانتماء العقائدي والايديولوجي، كان في صداقته لي نوع من الشجاعة وتحدي تعليمات من زعمائه - صريحة او مضمرة لا ادري - لكن زعماءه كانوا يعملون على ان "يكسبوني" ايضاً، فربما كان ذلك كله جزءاً من خطة مدروسة، وربما لم يكن. في بيت القاضي كان عبق التاريخ - في اذهاننا - يمتزج بروائح الحاضر التي لم تكن نقية تماماً، الناس يعيشون الآن وليس في تصورات التاريخ كما تتراءي لنا، ما لهم هم وهذا التاريخ؟ يعبرون تحت العقود الحجرية الضخمة، امام الجوامع وبجانب الحيطان الشامخة، تحت المآذن السامقة والقباب القديمة، عربات الكارو مركونة على أبواب خشبية مقواة بحديد صدئ ومسامير غليظة، الشاحنات الثقيلة تمرق او تزحف وهي تصهل صهيلها الميكانيكي مع صيحات "اوع يا فندي .. اوعي يا ست الكل.. اللهم صلّ ع النبي" من السائقين وهم يشقون طريقهم - حرفيا يشقون السكة بين المارة وباعة البلح والجوافة والقهوجية والشغيلة في دكاكين البقالة والورق الدشت والمواعين والعصير والعرقسوس والمنجة في البرطمانات مدورة البطن والسندويتشات والبُمبار والسحب والعطور والبخور والموازين والسنج والصاغة في الدكاكين الضيقة المظلمة والغائرة في الحيطان، يطرقون ويعصرون وينادون ويفاصلون ويعتلون ويحطون ويشربون القهوة على موائد معدنية مدورة صغيرة لها قوائم رفيعة غير مستقرة على ارض الرصيف، لا يعرفون الا يومهم وشغلهم وهموم العيش ورزق العيال، ولا يتشوفون الا الى حجرين المعسل وشفطات الشيشة واذا فتحها ربنا نفسين الحشيش مع الصحبة الجدعان ثم العودة الى اجساد نسوانهم ليلاً والغوص في عجينها الدمس او لحمها الضاوي سواء، والانكفاء حتى طلوع الفجر، الوضوء والصلاة والتوكل ليستعينوا على الشقا بالله، من جديد. ما لهم بقى والتاريخ..! في معتقل ابو قير كان معنا اثنان من الروس البيض، حطت بهما تقلبات الحياة في ارض تصوراها ابعد ما تكون عن البلشفية والبلاشفة، ولكنهما بعد ثلاثين عاماً او تزيد وقعا في الحبس مع شيوعيين من كل لون، مصريين وخواجات، اناتولي صامت منطوٍ في حاله والآخر صديقي اليكسي عجوز ناحل صلب العود، اشيب ما زال شعره كثيفاً، كتانة بيضاء، ورفيع الصوت من العَجَز، بدأت أتعلم منه الأبجدية الروسية والكلمات الاولية والقواعد الاساسية، وسودت كراسات بها، كنت احلم بأن اقرأ بوشكين وباكونين وديستيوفيسكي وتروتسكي بلغتهم الاصلية، لم نكمل بطبيعة الحال، وفقدت الحلم كما فقدت احلاماً كثيرة، مثل كل الناس، عندما نقلت الى معتقل الطور وافرج عن اليكسي لست ادري متى والى اين. في لواندا التقيت بأليكسي مرة اخرى. كان في الوفد السوفياتي الى مؤتمر التضامن الافريقي الآسيوي مع انغولا بعد استقلالها عن البرتغال بعام واحد. اليكسي. ابيض الشعر متهضم الوجه عظيم القامة لا يتكلم الا الروسية ترجم له عني انفير فاليبكوف - صديقي انور والي بك اذ أعيد اسمه الى اصله العربي - عندما قلت انني عرفت منذ سنين شبيهاً له، كأنه اخ توأم في المعتقل في اسكندرية، فقال لي انه من مخضرمي ثورة تشرين الاول، كان صبياً عندما حارب في صفوف الجيش الاحمر تحت قيادة ليون تروتسكي، قالها بصوت خشن غير هيّاب فيه نوع من استماتة الشيوخ الذين لم يعودوا يخافون شيئاً، أما انور لقد ترجمها لي - بالعربية - هامساً، كأن اسم تروتسكي - مجرد الاسم - ما زال محظوراً على عامة الكوادر في الحزب، وعامة الناس من باب اولى، ولكن فاليبيكوف كان من النخبة، وكنت اجادله - احياناً باللغة العربية، وحدنا، من دون شهود - عن الديموقراطية والمركزية، وعن الانشقاق التروتسكي الذي كنت اعتبره هو الاصل وان المنشق هو ستالين، وعن محاكمات موسكو 1936، وعن طرد كامينيف وزينوفييف وانتحار لونا تشارسكي ومايا كوفسكي، الى غيرها من القضايا التي عفا عليها الزمن وكنسها التاريخ، واقول لنفسي: هذا ما يبدو الآن، فقط، اما في جوهر المسألة، فمن يدري؟ لعل هذه القضايا مما لا ينالها الزمن. بعد انفضاض المؤتمر، في 4 شباط فبراير 1976، واقرار البيان العام، خرجت امي على الكورنيش المطل على الاطلنطي، في مغارب اخر صيف انغولا. وكان كل شيء هادئاً، موحشاً، خاوياً، المحيط ساج غاف يترقرق موجه في دفقات خافتة احسها ابدية لا شأن لها بالتاريخ ولا بالزمن. في الصباح رتبوا لنا موعداً للقاء رئيس الجمهورية الفتية، اجستينو نيتو، طالما كنت ألقاه في مؤتمراتنا وطالما ترجمت له وعنه، في مكتب يوسف السباعي المصقول المعتني بنظافته واعتدال صوته وهدوئه، في مقر التضامن الافريقي الاسيوي، المبنى الرشيق العريق المصادر من احدى أميرات أسرة محمد علي، في المنيل. دخل معي عزيز شريف، رئيس وفد التضامن، وخطا الى الغرفة الواسعة في قصر رئاسة الجمهورية، بحيوية شيخ قضى حياته مناضلاً في العراق وفي المنافي، وعندما قدمني التشريفاتي الشاب المحكم الى الرئيس نيتو، هجس بنفسي ان ثمة اختلافاً واضحاً بين الزعيم المكافح القلق العنيد ايام المنفى والتطواف في الافاق، وبين رئيس الجمهورية المستقر الذي وصل اخيراً، مهما كانت الحرب تنوش اطراف البلاد بل وتتوغل في جسمها، قال نيتو للشاب الانيق ناعم النبرة، "اعرف، لا حاجة ان تقدمه لي، هذا صديق قديم" وضحكنا، كانت تلك من المرات القلائل، بل لعلها المرة الوحيدة التي رأيت فيها ضحكة على هذا الوجه البشوش، المربع تقريباً، لامع العينين دائماً بالذكاء التوهج، داكن السمرة، ليس حالك الزنوجة، قلت له "سيدي.. اسعدني ان اترجم لك بالعربية قصيدتين نشرتهما في "لوتس" مجلة الكتاب الافريقيين الاسيويين، انا ارسل المجلة بانتظام الى مقر الحزب في لواندا، منذ الاستقلال". بدت على الوجه الرقيق المعقود على إرادة صلبة امارات اهتمام غير ديبلوماسي وسألني عن عنوان القصيدتين وهل وجدت صعوبة في الترجمة، فقلت له بل وجدت متعة، واحس الرجل انني لا أجامل، فشكرني بابتسامة دون كلام. مات بعد ذلك بسنوات قلائل بالسرطان، وما زالت بلاده تمزقها الحرب الاهلية، حتى الآن، بعد عشرين عاماً، والمجاعات، والفقر المروع. لكن انفاس الاطلنطي ذلك المساء على كورنيش لواندا كانت تعيد الي نسمات رخية تهب على وجهي المتقد بالحنين والحصار والاحباط تأتيني مثقلة ايضاً ببلل اليود وجفاف صحراء ابو قير معاً، والاحاديث الطويلة بالقرب من الاسوار الشائكة ولكن من غير ان نقترب منها جداً، مع صديق راحت به الأيام. هل كنت ازور مدحت شعبان في بيته القديم في فيكتوريا، قبل المعتقل ام بعده، كان شارع ابو قير ايامها خاوياً ويبدو لي فسيحاً، حتى اصل الى البيت المبني من دور واحد، عمله ابوه من ايام الملك فؤاد، حجراً أبيض عريض وجنينة فيها اشجار برتقال وتوت وارف وكافور عملاق، اثاثه تفوح من خشبه رائحة القدم، والقطيفة على الفوتييات والكَنَب ناصلة قليلاً ولكن الوانها قوية. عندما تزوج بعد ذلك خلف بنتاً وحيدة هي بدورها خلفت بنتاً وحيدة، ماتت زوجته بسرطان قاس ومهما انهمك في مختبراته ومحاليله الكيماوية وموازينه الحساسة، ومهما شغل نفسه بها فقد حدستُ انه ظل وحيداً، ومفقوداً. ثم انقطع عن الرد علي كلما عيّدت عليه او سألت عنه، زارني مرة، يمكن او مرتين، وانقطع. كأنما ظل يخامره حس بالاثم. هل بعنا ايماننا؟ بكم؟ باللقمة والهدمة؟ هل خذلنا انفسنا؟ ام انشعبت بنا الطُرق، وكان لكل منا طريق؟. كانت السيارات القلائل تمرق على الكورنيش، من دون صخب، من دون تزاحم، النخيل السلطاني يميس سعفه، لواندا، الانفوشي، هافانا، البيوت الفسيحة الصامتة والغرف العالية والشبابيك العريضة المطلة على قوارب الصيد المركونة في سيف الماء، شِباك الصيادين مفرودة عليها، والسور المنخفض قد خفف من صوت العالم وراءه، الامواج الصغيرة ترتمي تحت الحجر بوداعة لا اطمئنان اليها مع ذلك، انوار الجيران في بيوتهم المكنونة تنكشف امام اعين المحبين.