اللقطة في حد ذاتها تبدو للوهلة الأولى، اقل لقطات الفيلم جمالاً، من الناحية التكوينية. فالديكور رمل صحراوي كأنه بلا نهاية، وهناك شيء من الحرارة المتعبة يخيّم على المكان. والأشخاص الثلاثة الذين يشغلون حيزاً من ذلك الديكور الصحراوي الأجرد، ينظرون الى اللامكان، ويعزفون على آلاتهم الموسيقية من دون ان يعبأوا بما اذا كان ثمة جمهور يستمع اليهم. والحقيقة ان ليس ثمة جمهور في هذا المكان الصحراوي، ولو اقتربت الكاميرا من وجوه العازفين للاحظت تناقضاً كبيراً بين التعابير التي تحملها سمات هذه الوجوه، وبين ايقاع العزف نفسه. فالعزف ينتمي الى عالم مرح لا شك فيه، والى رغبة في العيش ومواصلة الحياة على رغم كل شيء. اما سمات الوجوه فتنتمي الى الديكور الصحراوي وخوائه وحرارته القاتلة. فهل ننطلق من هنا لنقول استطراداً انه ندر لفيلم ان حمّل مشهده الاخير كل هذه الدلالة التي تربطه بعنوانه؟ وبكلمات اخرى: ان حمّله كل ذلك الحزن الذي ينبعث من مطلع اغنية صالح عبدالحي المعروفة: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين؟». هذا السؤال الذي يطرحه صالح عبدالحي، مغني الثلاثينات الشهير، على البنفسج، أوليس هو هو الذي يطرحه الفيلم على شخصياته الثلاث الرئيسة؟ واستطراداً، أوليس هو هو السؤال الذي يتوجب علينا ان نطرحه على رضوان الكاشف نفسه، مخرج فيلم «ليه يا بنفسج؟»، وبعد ذلك على كل اولئك المبدعين العرب الذين يسابقون الزمن السميك والموت البطيء، ليُخرجوا من صلب همومهم، وهموم مجتمعاتهم، أعمالاً تبهج كالبنفسج؟ خرافة الناجح «خارج الحارة» فيلم «ليه يا بنفسج؟» فيلم حزين. ونادراً ما اتسم عمل سينمائي عربي بمقدار الحزن الذي ينضح به فيلم رضوان الكاشف الأول هذا. والمخرج لا يحاول ان يخفي مصدر حزنه: انه الاحباط الذي يعيشه ابناء اجيال اقبلوا على الحياة وهم مفعمون بالأمل، لكن هذا الامل سرعان ما تبدى سراباً، وسرعان ما خابت الاحلام واستحال كل مشروع للخروج محاولة للضياع او الموت. وما موت علي بوبي رابع الاصدقاء الذي لا نراه الا في اللحظات الاخيرة من الفيلم، سوى المؤشر الوحيد على اتجاه الريح. والحال ان علي بوبي هو الشخصية الرئيسة في «ليه يا بنفسج؟»، يتجلّى في غيابه اكثر مما في حضوره. فهذا الهامشي الذي عرف كيف «يخرج من الحارة» باكراً، غدا المثال والاسطورة بالنسبة الى رفاقه، وغدت قصة نجاحه املهم الوحيد. ومن هنا نراه يطالعنا، عبر غيابه الجسدي وحضوره الاسطوري، منذ لحظات الفيلم الأولى. وبالنسبة الى اصدقائه الثلاثة: احمد (فاروق الفيشاوي) وعباس (نجاح الموجي) وسيد (اشرف عبدالباقي). بالنسبة الى هؤلاء لا بأس في ان يظل كل شيء مؤجلاً، ولا بأس في الغوص في ألاعيب الحياة اليومية ومناوراتها، ريثما يتيسر لكل منهم سبيل ان يكون علي بوبي جديداً، ليصبح بدوره اسطورة النجاح عبر الخروج من الحارة، من حياة البؤس والهامش، ومن رتابة اليومي. هذا هو الاطار الاسطوري الذي يضع فيه رضوان الكاشف شخصياته، ويحركها ببطء في تصادم علاقاتها. يحركها في اليومي، وكل منها يتطلع الى الاسطوري، الى حكاية النجاح المقبلة. ولأن رسم اليومي الرتيب الذي لن يخرقه سوى الخروج، هو المحور الأساسي لفيلم «ليه يا بنفسج؟»، كان من المستحيل رسم حكاية تمفصل الفيلم. وجود حكاية هنا، لا يستقيم مع هامشية الاصدقاء. فالشرط الأساسي للهامشية خلوها من المفاجآت، من الحكايات. ومن هنا لم يكن غريباً ان يعلن رضوان الكاشف تأثره بكتّاب الستينات في مصر، فيهديهم فيلمه. فهؤلاء، من ابراهيم اصلان الى محمد البساطي، ومن سعيد الكفراوي الى يحيى الطاهر عبدالله مروراً ببهاء طاهر وغيره، صنعوا ادباً يقف ضد الحكاية، ادب مناخ، ادب انتظار ورتابة الحياة والتصادم بين الشخصيات وبين الواقع والاحلام، تصادماً يمنع حدوث اي تبدل اساسي، ولو على صعيد التحول السيكولوجي للشخصيات. ما اراد هذا الأدب ان يقوله، وما يسعى رضوان الكاشف (ومشاركه في كتابة السيناريو والحوار سامي السيوي) الى قوله، انما هو هذا اليومي الذي يتكرر الى ما لا نهاية، مع وعد دائم بالتغيير وتجدد الأمل على رغم كل ضروب الإحباط. فهل نحن بعيدون جداً من المنتظر الذي لن يأتي ابداً؟ الهامشيون يقبلون التوبة حول موضوعه هذا، يبني رضوان الكاشف مناخاً تمثله حارة، هي اقرب الى حارة «الكيت كات» كما رسمها داود عبدالسيد منطلقاً من «مالك الحزين» لإبراهيم اصلان، منها الى حارات نجيب محفوظ او صلاح ابو سيف. فالحارة هنا هي العالم المغلق، العالم/الرمز، الذي تسير فيه الحياة ببطء ورتابة من دون اي امل بحدوث اي تغيير في (أو من) الداخل. الامل الوحيد يكمن في الخروج من هذا العالم، مثلما هو حال الشاب والفتاة الراغبين في الخروج من حارة «سلطان المدينة» التونسية كما صوّرها المنصف ذويب. امام استحالة تغيير الداخل (استحالة نهائية وقاطعة اذا صدقنا رضوان الكاشف والمنصف ذويب وداود عبدالسيد)، امام الرتابة المطلقة لهذا العالم الصغير/العالم الرمز كما قلنا، تصبح كل الآمال منصبّة على رهان الخروج. ولأن الخروج يرتبط بأسطورة النجاح كما مثلها - وسنرى لاحقاً درجة زيف هذا المثال - علي بوبي، يعيش اصدقاء «ليه يا بنفسج؟» الثلاثة في حلم الخروج، خالقين في انتظار ذلك نوعاً من التضامن بينهم وبين الكثير من الشخصيات الهامشية الاخرى (وكل الشخصيات «في ليه يا بنفسج؟» هامشية على اي حال). وهذا التضامن ينطلق من خوف مشترك بين الاصدقاء الشبان، من ان يؤول مصيرهم الى ما آل اليه مصير النماذج المطروحة امامهم: عيد الذي انتهت احلامه في ان يصبح مغنياً، ذات يوم، فتنبّه نهائياً الى انه ضرير، وتخلت عنه زوجته لتتزوج جاره. ومسعود، سائق العربة الذي تحطمت احلامه في ان يكون أباً، لذلك راح يعتصر حزنه وخواء حياته كلها وهو يراقب اطفاله يموتون واحداً بعد الآخر. ونسجل لرضوان الكاشف في مجال رسمه للشخصيات، انه عرف كيف يوجد لكل شخصية معادلاً: نادية (لوسي) عاشت فترة مع سارق الحمير، فواز، لتقع بعد ذلك في حب احمد. لكنه يصدّها فتتزوج من صديقه عباس كي تظل قريبة منه، ثم تسرق مع هذا الاخير العربة التي وضعها احمد في تصرف اصدقائه وعيشهم المشترك، وكان ورثها من عمته. فبالنسبة الى الهامشيين، لا يجوز لأحد ان يمتلك شيئاً بمفرده. لكن عباس المتسرع وغير القادر على انتظار تحقق الحلم (الخروج) الى النهاية، يحاول ان يخرق قواعد اللعبة ثم يعود من دون امل بأحمد، في الوقت الذي يعيش صديقه سيد علي حلم الزواج منها. ولئن كان علي بوبي يمثل بالنسبة الى اصدقائه حلم الخروج، فإن «فتاة القصر» التي لا نراها إلا عبر احلام احمد، تمثل ايضاً بالنسبة اليه حلماً يرتبط بحلم الخروج المستحيل. «فتاة القصر» وعلي بوبي، هما نقطتا الأمل بالنسبة الى احمد. وأحمد هو محط امل لوسي ونادية، ونادية محور غرام عباس وفواز. هذه الازدواجية التي تطالعنا في كل لحظة من لحظات الفيلم، تطالعنا كذلك في التصرفات: نادية تساعد احمد على سرقة الحمار من فواز، بعدما كانت تواطأت مع فواز على سرقته! ثم تساعد عباس على سرقة العربة. وسيد يُطرد من المختبر الذي يعمل فيه بعد انكشاف سرقته للأرانب ليأكلها مع اصدقائه. من الحارة... الى الحارة تعود هذا التكرار للتصرفات، مع تحميلها في كل مرة دلالة مختلفة تماماً عن دلالتها الأولى، هو الذي يعطي هذا الفيلم جزءاً من جدّته وطرافته. ففي عالم الحارة (الرمزية) هذا، يجب ان تنتظم الاحداث الصغيرة في توالد تصاعدي، وفي تشابه - ولكن في اختلاف من ناحية المنظور والنتيجة - مع بعضها بعضاً، وذلك بهدف ضرب البعد الوعظي الذي يفترض به ان يستدعي على الدوام رد فعل واحداً: فالسرقة مدانة اساساً، من الناحية الاخلاقية. ولكن المسألة تصطبغ بالنسبية حين ننظر اليها انطلاقاً من فاعلها او الغاية المتوخاة منها. قد لا تكون هذه كلها، في نهاية الامر، سوى تفاصيل صغيرة. ولكن في فيلم مثل «ليه يا بنفسج؟» تصبح التفاصيل الصغيرة هي الاساس، لأنها التراكم الذي يقود الى الموقف النهائي، الموقف الذي يصبح تكثيفاً لكل ما سبق. فحين تصل احلام الاصدقاء الى ذروتها، وتكاد تختمر لديهم رغبة الخروج للسير على منوال علي بوبي، يعود علي بوبي الى الحارة، ولكن ليس عودة المنتصر، بل عودة المهزوم. يعود وقد أصيب بطلقة رصاص تقضي عليه، وسط حزن أصدقائه وذهولهم. وهكذا، خلال أقل من دقيقتين ينسف رضوان الكاشف الأساس الذي انبنت عليه احلام الاصدقاء. فما هو النجاح الذي حققه علي بوبي؟ لقد كشفته اللحظات الاخيرة لنا مجرد لص، خرج من عالم السرقات الداخلية الصغيرة، غير المؤذية في نهاية الامر (والتي يمارسها فواز او سيد او عباس، او اي فرد آخر من افراد الحارة)، الى عالم السرقات الكبيرة التي إن فشلت يُقتل القائم بها ويعتبر خارجاً على القانون، وإن نجحت يصبح صاحبها من رجال الأعمال وسادة المقاولات. وحالة علي بوبي تقول لنا ان النجاح استثناء، مجرد استثناء للقاعدة. هذا هو الخط الذي رسم عليه رضوان الكاشف فيلمه الأول، هو الذي درس الفلسفة والسينما وعمل كمساعد مخرج في اكثر من عشرين فيلماً، قبل ان يخوض هنا تجربته الأولى فيكشف عن حساسية وأناقة في رسم المناخ، وعن مقدرة تفوق المتوسط في التعامل مع ممثليه (علماً أن معظمهم يعتبر نجماً في القاهرة، ومعروف كم ان التعامل مع النجوم صعب!)، وعن ادراك للعبة التصعيد في الفيلم حتى لحظة التوتر الاخيرة، حتى وإن كان اداء شوقي شامخاً، وانفعالية اصدقائه المتحلقين من حوله، حطمت وتيرة التصعيد في هذا المشهد الذي كان يفترض به ان يكون مفتاح الفيلم. * من «100 فيلم غيّرت السينما العربية» الذي يصدر قريباً