بينما ينشغل العالم بآخر تطورات قضية لوينسكي والرئيس الأميركي والحديث المتواصل عن احتمال عزل بيل كلنتون عن منصبه، يحاول المرء جاهداً أن يتجاهل هذه الميلودراما وينثني إلى ما فيه قدر أكبر من الجدية. وفي هذا السياق شهدت قبل اسبوعين حدثين بسيطين فيهما معان كبيرة. الحدث الأول احتفال محلي لمرور عشر سنوات على تأسيس فرع لمنظمة عربية أميركية نشيطة. والثاني حفلة استقبال وندوة عن الاستثمار في صناعات الكومبيوتر في إسرائيل رعاها قسم المصالح التجارية في القنصلية الإسرائيلية في بوسطن. وفي تفاصيل هذين الحدثين دروس واسعة تترك المراقب في خوف من أن هناك قطاعاً واسعاً من الأمة العربية، لعله حتى الغالبية العظمى، غير مكترث لمواكبة مسيرة الزمن الذي يركض من دون رحمة. ذلك ان المناسبة الإسرائيلية، باختصار، كانت سعياً إلى المستقبل الأفضل، والمناسبة العربية هرباً من الواقع. المناسبة الإسرائيلية غير فريدة، خصوصاً في منطقة الشمال الشرقي حيث ولاية ماساشوستس، وفيها مدينة بوسطن - كمبردج التي تضم أكثف التجمعات العلمية في العالم مثل هارفرد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا ام. آي. تي وغيرهما كثير. حتى يقال إن في المنطقة أكبر عدد من حملة جوائز نوبل في مدينة واحدة في العالم، وأكبر كثافة للمكتبات في الميل المربع الواحد في العالم، أي أن المنطقة تعج بالعقول والأدمغة بعضها ابن بلد وكثير منها مهاجر من شتى أقطار العالم. المنطقة كذلك شهيرة بالشركات الصغيرة الناشئة، النشيطة، المختصة بالكومبيوتر وبرامجه واختراعاته المتواصلة، ولذلك ليس غريباً ان تهتم القنصلية الإسرائيلية بتطوير المشاريع المشتركة القائمة على علوم الكومبيوتر، وأن تشجع الشركات الطموحة على الاستثمار في مثيلاتها الإسرائيلية، وأن تقترح شتى وسائل تمويل هذه المشاريع. وهذه الجهود إنما هي جزء من حملة واسعة يرجع الفضل فيها إلى القسم التجاري في القناصل وفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن، تتمثل أحياناً كثيرة في توزيع معلومات عن شركات الكومبيوتر الإسرائيلية على الصحف الأميركية واسعة الانتشار، إلى جانب المجلات والمطبوعات المختصة طبعاً. مثلاً هناك زاوية أسبوعية في قسم الأعمال والاقتصاد اليومي في صحيفة "بوسطن غلوب"، تتناول كل مرة شركة ناشئة لها علاقة بالمنطقة ذات اختراع مشجع في مجال الكومبيوتر ولكم أن تتخيلوا من وجود هذه الزاوية المنتظمة كم هناك شركات محلية تتسابق في هذا المضمار. والشركات عادة إما محلية بالكامل، أو تأسست في المنطقة، أو أسسها من نشأ في المنطقة وهكذا. ومع أن هذا التعريف يعني أن الزاوية لا تعني عادة بالشركات الأجنبية، لكنها في الأشهر السنة الماضية تناولت بالتفصيل شركات إسرائيلية عدة، إما لأن لها فرعاً في بوسطن، أو لأن شركة من بوسطن استثمرت فيها أو بدأت معها مشروعاً مشتركاً أو لأن القائمين على الشركة الإسرائيلية درسوا في جامعات المنطقة. وهذا النجاح الاعلامي، الذي يترجم فوراً إلى ملايين الدولارات تستثمر في هذه الشركات الواعدة، إنما هو نتيجة جهد القنصلية الإسرائيلية. وبفضل هذه الجهود نعرف ان الشركات الإسرائيلية مثلاً أصبحت تسيطر على أكثر من نصف البرامج المختصة بأمن الكومبيوتر في العالم، وان صناعة الكومبيوتر وبرامجه تنمو في إسرائيل بسرعة أكبر من أي منطقة أخرى في العالم، وأنها لعبت الدور الأهم في الفورة الاقتصادية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، وان الجيش الإسرائيلي يلعب دوراً عظيماً في كل ذلك، لأنه يوفر مجالاً للتدرب على الأجهزة الالكترونية المتطورة لمن يملك الاستعداد العقلي لها. هذه صناعة المستقبل، وجهود حيازتها والاستفادة منها، تبدع فيها إسرائيل وتركز عليها وتحقق فيها انجازات، حتى والعالم كله ينتقد سياسة الحكومة الإسرائيلية من عملية السلام وقلة من اقتصاديي أو علماء الكومبيوتر تتعاطف مع حكومة ليكود أو حتى تعرف ماهيتها. فإذا انتقلنا إلى المناسبة العربية، وجدنا البكاء على الاطلال وتمني إعادة عقارب الوقت إلى الوراء. وربما كانت التفاصيل صدفة لكننا نظن ان وراءها علة في النفسية العربية تجب مواجهتها قبل أن يدوسنا الزمن. نصف مدة الاحتفال انقضت في مشاهدة شريط فيديو عن أثر العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، والنصف الآخر في رواية مشاهدات اعضاء زاروا العراق أخيراً ضمن مهمة إنسانية، وفي هذه المناسبة تعلمنا ان نسبة وفيات الأطفال في العراق من أعلى النسب في العالم نتيجة نقص الأدوية وقلة الغذاء، وان أمراضاً وعللاً بسيطة تمكن معالجتها وازالتها بالمضادات الحيوية أو بالجراحة تقود اليوم إلى وفاة أعداد كبيرة من البشر، كما كان الحال في القرن التاسع عشر، وان سيارات الاسعاف تكاد تختفي من البلاد لنقص قطع الغيار، وغير ذلك تفاصيل كثيرة أصبحت مألوفة لكل من اعتاد متابعة الأخبار اليومية، لكن تراكمها في برنامج واحد لنحو ساعتين له اثر عميق، يزيد من حدته أن الجمع الذي حضر المناسبة انغمس، وهو يشاهد الشريط، في مائدة حافلة بأطايب الطعام. نسجل هنا أننا شخصياً من دعاة رفع الحصار الاقتصادي عن العراق فوراً ومن دون شروط، مع استمرار منع تصدير الأسلحة إن رأت الدول المصدرة ذلك، ولكل دولة الحق في مقاطعة نفط العراق أو التجارة معه، لكن فرض قائمة طويلة من السلع الممنوعة بما في ذلك ألعاب الأطفال غير مقبول. ونريد هنا أن نتناول الموضوع من زاوية أخرى، وهي ان مواصلة حكومة العراق رفض العقوبات الدولية تهرب من الواقع لا تغلب عليه، حتى وإن ملت الدول المهتمة بذلك من متابعة العقوبات وعمليات التفتيش في المنشآت العسكرية العراقية وبدأت تتراخى في تطبيقها. هناك نقطة يصلها المرء وتصلها الأمة يجب فيها الاعتراف بالهزيمة لا مواصلة إنكارها، حتى تسير الحياة قدماً ويسعى الإنسان إلى صلاح المستقبل لا إلغاء الماضي. وقد وصل العراق هذه النقطة من سنوات وجمد ازاءها بينما الزمن يجري إلى الأمام. ولا نرى ما تحققه حكومة العراق بمواصلة رفض الواقع. والواقع طبعاً ان العراق هزم بدرجة مهولة في حرب الخليج، هناك طبعاً وجهة النظر التي ترى ان الصمود وحده نوع من الانجاز. وقد يجوز هذا التقويم إذا كان الخطر محيقاً بوجود الأمة نفسها. لكن الخطر المحيق هو بوجود الحكومة العراقية. والخطر الذي يهدد الأمة هو استمرار هذه الحكومة. جل المعاناة التي يدفع العراقيون ثمنها اليوم هو نتيجة استمرار هذه الحكومة. لو كانت الحكومة تضع مصلحة الأمة فوق مصلحتها الذاتية لاستقالت من زمان حتى وإن كانت على كامل القناعة بأنها مظلومة. ونحن نرى في هذا الإصرار على الصمود المزيف نمطاً من التخلف. هناك كثيرون يتعاطفون مع الموقف العراقي ويطالبون برفع العقوبات عن العراق. وهذه المطالبة، إذا لم تمتد إلى التعليق على سلوك الحكومة العراقية، تظل هي الأخرى تهرباً من الواقع. الموقف السياسي الناضج، المستعد لمواجهة المستقبل والقيام به، يتطلب باستمرار تقييماً للنفس لا إلقاء المسؤولية والذنب كل لحظة على أكتاف الغير. وقلة قليلة من المتعاطفين مع معاناة العراق تربط مع ذلك التعاطف تقييماً لسلوك العراق من بعد فرض العقوبات عليه. الموقف الكريم لحكومة في ظروف كهذه هو الإقرار بالهزيمة. هذا كلام صعب، لأن في نفسية العرب ونحن هنا نتهيب من التعميم لكنه أحياناً مفيد نفور من مبدأ الإقرار بالخطأ أو بالفشل وهما مختلفان طبعاً. هذا النفور من محاسبة النفس وهو نفور من تحمل المسؤولية في الظروف الصعبة يفترض في قرارته نوعاً من التفوق المعنوي لا صحة له في الواقع. يعني أنه يفترض أن ليس بالامكان أفضل مما كان، وهذا خلل في التفكير يقود إلى التهرب من دراسة الماضي بهدف العثور على أخطائه ودراستها ومناقشتها. وبالتالي يظل الماضي والسلوك السابق مساحة مقدسة منزهة عن العيوب. إلا إذا تغير النظام وصارت مهمة النظام الجديد تمزيق سمعة وانجازات الغريم/ السلف. أما النقد الذاتي المستمر كجزء من عملية متواترة لتحسين الذات فسلوك يظل منبوذاً أو مشبوهاً. توقف الزمن في العراق من ثماني سنوات أو ربما هو يتراجع، وتوقف معه المتعاطفون مع العراق. همهم بات يتركز على محو ما وقع قبل ثماني سنوات. كم من الشعارات والمواقف العربية تنصب على هذا الحلم نفسه: محو الواقع وإحياء الماضي، الذي كلما ازداد بعداً ازداد بريقاً وبات التمسك به نوعاً من السعي وراء حل سحري لمسؤوليات الحاضر. وكلما ازداد استحالة ازداد الاكتفاء به بديلاً عن أي مسعى منطقي آخر. كم من مشاكل العراق سيحل لو رفع الحصار غداً، وكم من معاناة العراق ناجم بالأصح عن سياسة الحكم فيه، بما في ذلك الإصرار على الصمود حتى آخر عراقي؟ هذه حكومة تختار أن يموت شعبها ثمناً لبقائها في الحكم، وكل أصابع الاتهام الموجهة بحق إلى الولاياتالمتحدة لا تغير شيئاً من هذا التقييم. هنا تعلو الأصوات بالحديث عن الاستقلال والكرامة الوطنية والصبر على المحن حتى تتم الغلبة على الأعداء، وهي الحجج الشائعة لتبرير هذا الموقف الخامل الذي يتبناه كثير من المتعاطفين مع العراق، نعني الموقف الذي يطالب المجتمع الدولي برفع العقوبات ولا يقرن ذلك بمطالبة حكومة العراق بالتنحي أو بالحساب على سلوكها منذ فرض العقوبات. وهو أيضاً الموقف الذي نتحدث عنه عندما نقول إن قسماً كبيراً من العرب يفضل التمسك بالماضي على النظر إلى المستقبل والعمل بتحقيقه والتكيف معه. الاستقلال الوطني الذي يتمسك به كثير من حملة الشعارات في عالمنا العربي هو استقلال حركات التحرر الوطني في الجزء الأول من هذا القرن، أي الاستقلال الهادف إلى بناء الدولة ومؤسساتها. نحن اليوم نعيش في عالم آخر على اعتاب القرن الواحد والعشرين، ولم يعد فيه معنى وأهمية عظمى للاستقلال القومي إلا كخطوة نحو أهداف أبعد لمصلحة المواطن، ومؤسسات الدولية لا سمو فيها لذاتها، بل هي مجرد مكاتب لتسهيل حياة الناس، فإن لم تفعل ذلك، باتت عبئاً على المجتمع وجلاداً له. وهو الحال في الجزء الأكبر من المنطقة العربية في العراق وغيره. العالم الجديد قائم على المنافسة الاقتصادية قبل التفوق العسكري، وهو عالم صار فيه تفجير أسلحة نووية في الهند وباكستان مبعثاً للسخرية من تبديد موارد الأمة لا مصدراً للاحترام والهيبة. هناك فعلاً نظام عالمي جديد لا نكاد نبدأ فهم تعقيداته ومتطلباته، لكنه بالتأكيد لا ينطوي على تحقيق أي شعور بالعظمة والنبل عندما يلعب الشعب دور الضحية. وكما في العراق، كذلك في دول عربية أخرى، يخطر لنا منها الجزائر والسودان، نزاع يدفع ثمنه الشعب نفسه على أي نموذج ماضٍ أحق بالجلوس في كرسي الحكم، والمتنازعون غافلون أو متغافلون عن أن الصغار الذين يموتون لن يعودوا إلى الحياة، والشباب المهاجر لن يرجع، والثروة التي تبدد لن تستعاد، وأن الماضي كله يظل ماضياً. وبينما تسوق إسرائيل برامج الكومبيوتر يبكي العرب لنقص حليب الأطفال في أحد أغنى الأراضي العربية. * كاتبة سياسية فلسطينية.