يتوجب على الشعوب في لحظات فاصلة مثل لحظة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي ألا تخلط بين الخلافات وبين القواسم المشتركة. فالخلافات واردة لمعرفة من المخطئ ومن المصيب، أما القواسم المشتركة فلا يجوز إنكارها لأن ما بين العرب والأكراد هو تاريخ من النضال والتعايش والتصاهر والتلاقح الثقافي واقتسام الخبز والماء. لكن من الآن فصاعداً الأرجح أننا سنسطّر الكثير من المقالات والدراسات، وسنذرف بأثر رجعي دمع الندم والتطهر في تعاملنا مع إخوة الوطن من الأقليات، وستراودنا الكوابيس تحت طَرقات سؤال من التالي يا تُرى؟ على من الدور إذا نجح هذا الاستفتاء بالفعل في تكريس انفصال كردستان العراق؟ أقول انفصالاً وليس استقلالاً لأن الأخير لا يكون إلا في مواجهة غاصب محتل. سؤال على من الدور غداً موجه لنا جميعاً كعرب، لكل المحايدين والمتفرجين وغير المكترثين بشأن ما يجرى في كردستان. ما حدث في 25 أيلول يندرج تحت أكثر من عنوان للنقاش والتفكير، لكن يسبق هذه العناوين تساؤل مؤلم لكنه واجب، فلسفي لكنه واقعي وهو هل الخطأ يبرر الخطيئة في بلاد الرافدين؟ فإذا افترضنا أن الحكومة العراقية قد أخطأت في شأن بعض مطالب الأكراد- مثلما هي أخطأت بحق مكوّنات أخرى من الشعب العراقي- فهل يعني الخطأ أن يندفع الأكراد إلى الوقوع في خطيئة الانفصال مجلّلة بالصوت والصورة بأعلام إسرائيلية رفعها المتظاهرون الأكراد جهاراً نهاراً؟ من دون الدخول في مقاربات لغوية حول الخطأ والخطيئة، فإن الفارق بينهما في الإدراك العام هو فارق في الدرجة والطبيعة معاً. فمن حيث الدرجة يبدو الخطأ أقل جسامةً من الخطيئة، أما من حيث الطبيعة فالخطأ تقييم قانوني فيما الخطيئة تقييم أخلاقي. بأي ضمير حر لا يمكن إنكار المعاناة التاريخية لأكراد العراق ابتداء مما تعرضوا له من خذلان دولي حين نفضت القوى الكبرى يدها عنهم في مؤتمر «لوزان» 1919 أي قبل إعلان الدولة العراقية الحديثة بعام واحد وانتهاء بما تجرعوه في عهد صدام حسين إذ تبقى «إبادة» حلابجة حاضرة في الأذهان. لكن الضمير الحر ذاته يوجب الاعتراف أيضاً بأن أكراد العراق قد استردوا اعتبارهم التاريخي والثقافي بل والسياسي منذ عام 1992 وزاد ذلك عام 2003 ثم أصبحوا إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية الفيديرالية بموجب دستور 2005. مقاييس الشرعية العنوان الأول الذي يثيره الاستفتاء الكردي هو مدى شرعيته الدولية والدستورية والسياسية. والحقيقة أنه يفتقر إلى مقدار كبير من هذه الشرعيات الثلاث معاً. فلا شرعية دولية له ليس فقط بحكم الرفض الدولي من جانب الأممالمتحدة وكل دول العالم تقريباً باستثناء الكيان الإسرائيلي اللقيط ولكن أيضاً لأن إعلان الأممالمتحدة لسنة 1992 لحماية الأقليات لا يعني بأي لفظ أو معيار قانوني منح حق تقرير المصير للأقليات لكنه ينص على حماية خصوصيتهم الثقافية واللغوية والدينية وكفالة التعبير عن خصائصهم وتقاليدهم وعاداتهم، بل إن الإعلان الأممي اشترط ألا تترتب على ذلك مخالفة القانون الوطني أو المعايير الدولية (م 2-4 من الإعلان). أما الشرعية الدستورية فإن الاستفتاء يطرح في شأنها أكثر من تساؤل. فالدستور العراقي الحالي الذي شارك الأكراد في صياغته ووافقوا عليه بأنفسهم يكرّس وحدة الدولة العراقية (م1) ويحظر سن أي قانون أو دستور للأقاليم يتعارض مع أحكامه لكنه في الوقت ذاته ينص على أن العراق بلدٌ متعدد القوميات (م3) ويعترف باللغة الكردية التي تُعتبر شأن اللغة العربية لغةً رسمية للعراق، ويضمن حق التعليم بها في المؤسسات التعليمية (وهو واقعٌ حاصلٌ بالفعل) بل ويوجب إصدار الجريدة الرسمية للدولة العراقية وكذلك الوثائق الرسمية باللغتين العربية والكردية، ويجوز التكلم والمخاطبة في مجلس النواب والمحاكم بأي من اللغتين العربية أو الكردية (م4 ثانياً). في ظل مثل هذه الحقوق الدستورية للأشقاء الأكراد، يبدو خطاب الانفصال/ الاستقلال شديد التهافت إن لم يكن الزيف. صحيحٌ أن هناك مسائل دستورية ما زالت موضع اختلاف مثل توزيع إيرادات النفط والغاز بين الحكومة الاتحادية والأقاليم (م112 من الدستور) وتوزيع الإيرادات الاتحادية بحيث تُخصص للأقاليم حصة عادلة وفقاً لثلاثة معايير هي موارد واحتياجات وعدد سكان الإقليم، ومثل المناطق المتنازع عليها (م140 من الدستور) لكن هذه وغيرها هي الأمور التي كان يجب أن تكون موضوعاً للحوار، وهو ما تهربت منه كردستان ثم عادت تدعو إليه بعد تمام الاستفتاء وكأنها كانت تهرب إلى الأمام لخلق واقع جديد. أكثر الحجج الدستورية تهافتاً من الجانب الكردي هو القول إنه إذا كان لا يوجد نص في الدستور يجيز الاستفتاء فلا يوجد نص يحظره! الأخذ بمثل هذه الحجة المتهافتة يعني أنه من حق أي إقليم أو بلدة في العالم أن تعلن استقلالها الدستوري عن الدولة الأم لأن الدستور لا يحظر استفتاء مواطنيها على الاستقلال! يفتقد الاستفتاء الكردي أخيراً الشرعية السياسية بمقدار ما يفتقر الزعيم الكردي مسعود برزاني ذاته إلى الشرعية. فالاستفتاء الذي تبدو قيمته القانونية في ذاتها محل شك كبير يستمد شرعية إجرائه من رئيس حكومة الإقليم أو من البرلمان. وبرزاني يبدو رئيساً شكلياً بلا سند قانوني حيث انتهت ولايته منذ عامين، أما البرلمان الكردي فقد انتهت ولايته أيضاً. خطاب الانفصال/ الاستقلال يبدو متهافتاً سياسياً، إذ يزعم أنصاره أن الحكومة الاتحادية في بغداد تعامل الأكراد كمواطنين من الدرجة الثانية، وهو زعم يتناقض مع الواقع لأن منصب رئيس الجمهورية العراقية ولو أنه شرفي فقد تبوأه الأكراد مرتين في عهد جلال طلباني ثم حالياً في عهد فؤاد معصوم، فضلاً عن أن وزارتي الخارجية والمالية داخلتان في حصة الأكراد. يزداد مأزق الخطاب الانفصالي حين نعلم أن سلطات كردستان قد صممت على إجراء استفتاء 25 أيلول في مناطق متنازع عليها لم يُحسم أمرها بعد مثل كركوك، وهو ما يوحي بالعناد السياسي الذي لا يخلو من سوء النية. لأنه وبفرض شرعية الاستفتاء ما كان ليجوز شموله لهذه المناطق إلا بعد إجراء حوار مع الحكومة الاتحادية في بغداد. العنوان الثاني في الاستفتاء الكردي يتعلق بموقف النظام السياسي العربي بعد غياب رد الفعل الشعبي، في ظل معاناة بعض الشعوب العربية من الظروف المعيشية اليومية واكتواء بعضها الآخر بالحروب والصراعات الأهلية فلم يعد لهذه ولا لتلك متسع الانشغال بما يحدث في كردستان العراق. بدا النظام السياسي العربي مرتبكاً ومشتّتاً لأنه هو أيضاً يواجه تحدياته وأزماته الخاصة به. ولهذا جاءت ردود أفعال الحكومات العربية حتى الآن أقل من مستوى الأزمة وما تنذر به من احتمالات وأخطار تطاير شرر النزعات الانفصالية للأقليات في الفضاء العربي، وهو الفضاء الملبّد أصلاً بالغيوم. عدوى النزعات الانفصالية في أطراف كل قطر عربي تبدو كامنة تتوافر كل مسببات انتشارها، ربما كانت تنتظر فقط الظروف والتوقيت والأدوات. حتى لحظة كتابة هذا المقال، لم يتجاوب مع دعوة الحكومة العراقية لوقف الرحلات الجوية إلى مطار أربيل سوى شركات مصر للطيران، الملكية الأردنية، وطيران الشرق الأوسط، وفلاي دبي. الحق السيادي للدول العربية في اتخاذ الموقف الذي تراه في مسألة الانفصال/ الاستقلال الكردي هو حق مؤكد لا مراء فيه، لكنه يتغاضى عن واقع أن ما حدث في العراق قابل لأن يتحقّق في كل الدول العربية بلا استثناء حين تضع لعبة الأمم أوزارها وتكشف عن خرائطها. والأخطر في سيناريوات النزعات الانفصالية أن توظيفها من جانب القوى الدولية الكبرى إن لم يكن بقصد رسم خرائط جديدة للمنطقة فقد يكون من قبيل الابتزاز السياسي. وكل من الفرضين لا يقل سوءاً عن الآخر. تتعدّد دوافع الموقف العربي غير المكترث بما يحدث في كردستان العراق لكن السمة المشتركة هي التشرذم، وهذا بذاته لا يحمل جديداً. ثمة دول عاجزة ليس بوسعها بالحد الأقصى سوى التوقيع على بيان اعتراض أو رفض. وهناك دولٌ أخرى تنأى بنفسها حتى عن الرفض ربما انطلاقاً من أن «عدو عدوي هو صديقي»، بخلاف دول أخرى تلتحف ببعدها الجغرافي من أزمات المشرق العربي. أما جامعة الدول العربية فهي ليست أكثر من مؤسسة تعيد إنتاج هذا التشرذم العربي. وسط هذا المشهد، بدا الموقف المصري هو الأكثر وضوحاً في رفض ما يحدث ربما لأنه الأكثر إدراكاً بحكم سرعة بديهته التاريخية لتبعات وأخطار ما يحدث على الجغرافيا السياسية العربية. لكن، ماذا عسى أن تفعل مصر وحدها لا سيّما وهي تصارع الإرهاب أمنياً وعسكرياً، وتواجه الصعاب اقتصادياً، وتبحث عن ذاتها سياسياً؟ حقيقة الموقف العنوان الثالث للمسألة الكردية هو حقيقة الموقف الغربي وبالتحديد الولاياتالمتحدة من استفتاء 25 أيلول. هنا عنوان يتوجب البحث عنه لأن الخشية أن يكون مضلّلاً عن قصد، وهي خشية يوجد ما يعززها من مواقف أميركية مزدوجة سابقة مثل إيعازها لصدام حسين بغزو الكويت توطئة لأن يجرى بعد ذلك كل ما حصل. فالملاحظ أن الموقف الأميركي بدا على مدى الشهور الثلاثة الماضية رافضاً لإجراء الاستفتاء الكردي. لكن السؤال الآن هو ماذا عن الموقف الأميركي اللاحق للاستفتاء الذذي حظي بموافقة 92 في المئة من أصوات المقترعين الأكراد؟ لو كان الموقف الأميركي السابق على الاستفتاء صادقاً فالمنطق يعني أن يتأكد هذا الرفض الأميركي من دون تراجع أو التفاف. لكن التصريح الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية فور حصول الاستفتاء يوحي بغير هذا المنطق ويبدو لافتاً وهو بالحرف الواحد «الشعور بخيبة الأمل العميقة». لو كانت أميركا ضد انفصال كردستان حقاً لكانت هناك عبارات أخرى ممكنة القول بخلاف «الشعور بخيبة الأمل»! ولعلّ ما يسري على الموقف الأميركي يسري أيضاً على الموقف الأوروبي ومواقف دول أخرى مؤثرة في العالم. على أية حال، مسايرة واقع الانفصال الكردي من جانب أميركا يبدو متسقاً مع تصريحات العديد من كبار مسؤوليها منذ سنوات جورج بوش الابن عن الشرق الأوسط الجديد. فليس سراً أن العقل السياسي الباطن في أميركا وأوروبا- مدعوماً بتفكير صهيوني- طالما رأى أن هذا الذي نسميه نحن الوطن العربي ليس وطناً متناغماً في مكوّناته العرقية واللغوية والطائفية. لعلّ العارض الموقت الذي يحول دون ترجمة هذه الأفكار إلى مواقف وقرارات هو الارتباك العالمي الناشئ عن الحالة الإرهابية في المنطقة العربية وخشية تشتت الأوراق السياسية في هذه المرحلة. ما سبق يقود إلى تشخيص خلاصته أننا كعرب نعيش حالة انكشاف سياسي أشبه بالعراء تحت سماء مكفهرّة، بينما يهبط أكثر فأكثر سقف الأحلام والتطلعات بل قل الحقوق العربية حتى يكاد السقف يلامس رؤوسنا ولربما يُطْبق عليها فيما تتردّد الأصداء من حولنا «المجهول آتٍ. فلتتصالحوا»، لكن ما من مجيب حتى اللحظة. * أستاذ القانون في جامعة الإسكندرية