تخطىء تركيا إذا ظنت أنها ستحقق نصراً على سورية أو أن أي عدوان عليها سيكون مجرد نزهة عسكرية تحصد فيها الأهداف التي تسعى إليها أو تؤمن مصالحها الاستراتيجية وتضمن الأمن على الحدود، وفي الداخل المليء بالتناقضات وحقول الألغام وصواعق التفجير. ولا شك أن جنرالات تركيا يدركون جيداً من خلال خبرتهم العسكرية أن الحرب، أي حرب من هذا النوع، يكون المنتصر فيها مهزوم لأسباب عدة، أبرزها أنها تقع بين أهل وجيران وأبناء منطقة واحدة ومصالح مشتركة وتقاطعات متشابكة جغرافياً وبشرياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً. وأي عدوان على سورية، مهما كانت مزاعم مبرراته، سينتهي الى الفشل حتماً لأن تركيا تدرك من قراءة دروس التاريخ أنها ستنكأ جراحاً مضى عليها حوالي القرن وتفتح من جديد باب صراع لا نهاية له ومعه ملفات المسألة الشرقية بكل تشعباتها وتركة "الرجل المريض" وحدود سايكس بيكو والمطالب العربية المشروعة في لواء اسكندرون والأراضي السورية الأخرى المحتلة التي انتزعت من وطنها الأم زوراً وبهتاناً ومنحت لتركيا ضمن سياسة "فرق تسد" واستراتيجية الاستعمار الذي كان قد منح الطرف الآخر المحرض، أي الإسرائيليين، أرض فلسطين العربية الطاهرة. وكم كتبت في الماضي، وكتب غيري من الزملاء والكتّاب، داعين لحوار عربي - تركي ونزع أي فتيل للتوتر وإزالة أسباب الخلاف وحل المشاكل والنزاعات بالطرق الديبلوماسية وإقامة صرح من علاقات التعاون وحسن الجوار والتكامل الاقتصادي بين العرب وتركيا، ولكن لا حياة لمن تنادي إذ انتكسَت كل الجهود الرامية لتحقيق هذا الهدف السامي وأحبطت مساعي التقارب العربي التركي وانتصر الجناح المتطرف داخل تركيا في تصعيد التوتر ولهجة التهديد والوعيد وتغليب تيار العداء للعرب وللمسلمين، مع أن الشعب التركي بغالبيته الساحقة شعب مؤمن يرفض مؤامرة "التغريب" والعلمانية التي حاولت على مدى قرن كامل محو الهوية الدينية والقومية وقطع شرايين التواصل مع الاخوان والجيران وأبناء المصير المشترك والدين الواحد الموحد السمح. مع هذا، وعلى رغم اللهجة العدائية والتهديدات والتحذيرات والإنذارات والحشود كان لا بد من التمسك بالدعوة الى الحوار وحل الأزمة بالطرق الديبلوماسية وإزالة كل أسبابها من خلال مفاوضات مكثفة وصيغة "لا غالب ولا مغلوب" وبأسلوب حضاري يعبر عن النيات الحسنة والرغبة الأكيدة بتجنب مواجهة عسكرية، خصوصاً أن سورية أبدت حكمة ومرونة وعقلانية كان لا بد أن تقابل بالمثل من جانب تركيا للجم دعاة الحروب والدمار وأصحاب الغايات الخبيثة والأصابع الصهيونية الخفية التي حرضت على إشعال نار هذه الفتنة الخطيرة. ولهذا ندعو الله أن تنجح الجهود الخيّرة للرئيس المصري حسني مبارك ووساطته الحميدة بين البلدين الجارين الذين تشدهما روابط ومصالح لا حدود لها جنباً الى جنب مع جهود المملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى سارعت الى تبني سياسة التعقل والدعوة للحوار ونزع فتيل الأزمة التي تنفجر في وقت حرج جداً يستمر فيه التعنت الإسرائيلي وتواصل فيه حكومة الليكود الصهيونية مساعي دفن السلام وسياسة التوسع والاستيطان وإثارة الفتن. ولا حاجة لأن نفتش عن المستفيد من مثل هذه الحروب العربية - العربية، أو العربية - الإسلامية، لأن الأصابع الصهيونية هي التي حرضت على إشعال نارها وجرّت تركيا الى تحالفات مشبوهة واتفاقات سرية تضرب فيها عصافير عدة بحجر واحد حتى تتفرغ لتكريس سياسة الأمر الواقع واضعاف دول المنطقة لتكون هي الدولة الأقوى وصاحبة اليد العليا والحل والربط فيها بغية إحياء حلم إقامة الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية الصغيرة والهزيلة والمتناحرة بعد تفتيت الدول العربية والإسلامية وتقسيمها مع الهائها بحروب وصراعات وفتن لا نهاية لها. وما جرى أخيراً ليس مفاجئاً كما تحدث البعض، بل جاء نتيجة لسلسلة من التحركات وعمليات التصعيد في اللهجة العدوانية توجت بالإعلان عن قيام التحالف التركي - الإسرائيلي وإجراء مناورات مشتركة وتزايد الحديث عن تنسيق عسكري كامل وتقديم تسهيلات للطائرات الحربية الإسرائيلية في المطارات التركية. ورافقت كل ذلك أحاديث عن "عملية اكورديون" ضد سورية ولبنان تشارك فيها تركيا من الشمال وإسرائيل من الجنوب في ظل فراغ دولي مفزع. ففي الولاياتالمتحدة عجز وشلل نتيجة لفضيحة "مونيكا غيت" وعدم قدرة إدارة الرئيس كلينتون على اتخاذ أي موقف فاعل. وفي أوروبا لا مبالاة وانشغال بقضايا الوحدة وعدم امتلاك أوراق التحرك الفاعل والجدي. وفي روسيا عجز شامل من القمة الى القاعدة والتهاء بأزمة اقتصادية خانقة قد تقوض دعائم الدولة فيما دول المنطقة منهمكة بهمومها وحروبها، خصوصاً بعد انشغال ايران بأزمتها مع أفغانستان واحتمال جرها الى فخ خطير من يدخل اليه لا يخرج إلا جريحاً محطماً فاتحاً باب جراحات وفتن طائفية ومذهبية. ومن يستعرض الموقف الراهن من البوسنة الى كوسوفو الى جمهوريات آسيا الوسطى الى قبرص ثم الى وضع العراق ومسألة الأكراد ومحاولات إقامة دولتهم بدعم غربي بعد تفتيت العراق، ثم ينتقل الى التهديدات التركية لسورية يدرك جيداً حجم الأزمة ويفتح ملف الذكريات والأحداث منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة وتوزيع تركة "الرجل المريض" ورسم الحدود الحالية التي بقيت محمية ومحترمة ومحافظ عليها بسبب تقاسم النفوذ بين الغرب والاتحاد السوفياتي وسريان روح اتفاقية يالطا الى انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، ما أدى الى نشوب الحروب والاضطرابات ونشوء فراغ لم تستطع الولاياتالمتحدة سده على رغم هيمنتها على النظام العالمي الجديد واستغلته اسرائيل والأصابع الصهيونية العالمية في مناسبات عدة ومواقع كان آخرها اللعب بالنار بتحريض تركيا على سورية وصولاً الى احراق المنطقة، بمنأى عنها بالطبع، وهذا ما يفسر مسارعة نتانياهو وغيره من الإسرائيليين الى الإدعاء بأن اسرائيل لا علاقة لها بهذا النزاع. وليس سراً ان ثمة نفوذاً صهيونياً مسيطراً في تركيا ومسيّراً لسياساتها منذ مطلع القرن. إذ مرت بمتغيرات كبرى بعد المؤامرة الشرسة لضرب الإمبراطورية العثمانية وتفتيتها ولعبت الصهيونية العالمية دوراً قذراً في هذه المؤامرة بعدما رفض السلطان عبدالحميد بشدة منح فلسطين لليهود لإقامة دولتهم على أرضها وقال كلمته المشهورة "أقطع يدي ولا أوقع على منح فلسطين لليهود" فدفع ثمناً غالياً في مواجهة ضغوط الوكالة اليهودية العالمية. ولم تكتف المؤامرة بتفتيت الإمبراطورية وإلغاء الخلافة بل خاضت حرباً لا هوادة فيها ضد كل ما هو إسلامي في تركيا الحديثة تحت ستار العلمانية، ثم كرت سبحة الانقلابات العسكرية الى أن استقرت الحال على ما هي عليه الآن: الجيش هو الحاكم الفعلي والقوة الخفية الظاهرة في تسيير الأمور وراء قناع الديموقراطية والأحزاب الخاضعة لمثل هذه التوجهات. وقد حاول الرئيس توغورت اوزال تغيير هذه المعادلة وحقق تقارباً مع العرب والدول الإسلامية، وأقام انفتاحاً داخلياً سمح فيه بممارسة الشعائر الدينية وأدى بنفسه فريضة الحج وكان لا يخفي تدينه وتمسكه بواجباته الدينية وأدخل تركيا في عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي في محاولة منه لإعادة الهوية الأصيلة للشعب التركي ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح بعد وفاته، التي أثيرت حولها شكوك كثيرة، ثم جاءت تجربة حزب الرفاه الإسلامي وتسلمه مقاليد الحكم لتجهض ما تبقى من هذه الجهود وتعيد البلاد الى بدايات الثورة الأتاتوركية وجهود طمس الجذور. وقد زار أوزال سورية، كما زارها ديميريل من بعده، وقال لي بالحرف الواحد: "كانت مباحثاتنا ممتازة ومفيدة، وسورية لها علاقات تاريخية بتركيا وحين كنت هناك متجولاً في شوارعها أحسست كأنني بين أتراك لتشابه الملامح والسمات". وعن مياه الفرات قال: لا بد أن نتوصل معاً الى اتفاق حول مياه الفرات وكيفية الاستفادة الى الحد الأقصى منها، وأتصور ان هذا الاتفاق سيترك آثاره الإيجابية على دول المنطقة كافة". مع العلم أن تركيا قطعت المياه أو خفضت حصة سورية والعراقمرات عدة في محاولة لابتزازهما. وبالنسبة الى اسرائيل حاول أوزال حصر العلاقات وتخفيض مستوى التمثيل معها لكنه لم يخف وجود استراتيجية متينة للمصالح المشتركة بينهما، مشيراً الى حاجة تركيا الى دعم اللوبي الصهيونية في الولاياتالمتحدة لمواجهة اللوبي اليوناني القوي المعادي لتركيا ولوجودها في شمال قبرص. ويجب أن لا ننسى أيضاً نفوذ يهود الدونمة بقايا يهود البلقان وتغلغلهم في صفوف ضباط الجيش منذ ثورة أتاتورك ونجاحهم في تشجيع الاتجاه نحو الغرب وانفصال تركيا عن محيطها العربي والإسلامي وفرض العلمانية وإلغاء الحرف العربي، واستبداله بالحرف اللاتيني ومحو الكلمات العربية من اللغة التركية وضرب أية صحوة إسلامية أو أي دعوة للعودة الى الجذور. إضافة الى السيطرة على وسائل الإعلام من صحف وتلفزيونات وإذاعات وبنوك واقتصاد وشركات. أما بالنسبة الى موضوع الأكراد فيجب الاعتراف بوجود اتفاق كامل بين مختلف الأحزاب والاتجاهات حول أسلوب المواجهة، خصوصاً أن الجيش والاقتصاد دفعا ثمناً باهظاً لهذه الحرب المكلفة التي استمرت أكثر من ربع قرن، ولا سيما بالنسبة الى عمليات حزب العمال الكردي بزعامة عبدالله أوجلان، ثم بعد المخاوف والهواجس التركية من خطة أميركية - غربية لإقامة دولة كردية في شمال العراق نتيجة للاتفاق الذي عقد أخيراً برعاية واشنطن بين بارزاني وطالباني. هذه هي الصورة العامة للوضع، ولكن ما هي صورة الواقع في ظل التهديدات التركية؟ لا شك أن تركيا اختارت الوقت الصعب للضغط على سورية والعرب بتحريض من الأصابع الصهيونية! والاحتمال الأول أن تحل الأمور بنجاح المساعي السلمية، خصوصاً أن سورية أبدت استعداداً كاملاً للحوار حول كل المواضيع وهو حوار بدأ فعلاً عبر تبادل الزيارات وكان آخرها زيارة معاون وزير الخارجية السوري السيد عدنان عمران ووضع إعلان مبادىء. واستجابة تركيا لهذه المساعي تعني أنها أرادت تحقيق أهداف مرحلية من بينها تقليص نفوذ حزب العمال الكردي ومحاولة التخفيف من الخسائر والضغط على سورية للتخلي عن المطالبة بلواء الإسكندرون والأراضي السورية الأخرى نهائياً، ومواجهة استحقاق الانتخابات العامة التي ستجري في مطلع العام المقبل ويرجح المراقبون نجاح الإسلاميين في حزب الفضيلة الذي قام بعد حظر الرفاه بقيادة أربكان وبالتالي دخول تركيا في متاهات صراع داخلي مرير. ولا يستبعد المراقبون أن يكون وراء التصعيد الأخير محاولة من الجنرالات أما لتوحيد المواقف في وجه "عدو خارجي" أو استباق نتائج الانتخابات بمنع وصول القوى المناهضة لهم أو حتى تعليق العملية الديموقراطية من أساسها، خصوصاً أن الجنرالات قد منوا بانتكاسة كبرى نتيجة اصرار روسيا على تزويد قبرص صواريخ أرض - جو. أما إذا نفذت تركيا تهديداتها واعتدت على سورية فإن هذا يعني أن المخطط كبير وأن الخطر أكبر ويتناول المنطقة بأسرها في محاولة لإعادة رسم خارطتها من جديد وفق المقاييس الصهيونية بعد قرن على رسم الحدود الحالية وهذا يستدعي الحذر والحيطة وبذل كل الجهود لإنجاح لغة الحوار وإحباط المؤامرة الخبيثة، وعلى تركيا أن تدرك أن سورية لن تكون وحدها في المواجهة وهذا يتطلب تحركاً عربياً واسعاً وسريعاً وموقفاً موحداً ورادعاً واتصالات بالدول الكبرى لدعوتها للمشاركة في نزع فتيل انفجار كبير لن يطال العرب وحدهم بل تمتد آثاره الى العالم بأسره. فكل ما يطلبه العرب هو تركيا مستقرة ومستقلة الإرادة، ودولة صديقة وشقيقة تربطها بهم مصالح ووشائج لا تنفصم ولهذا يجب تغليب لغة الحوار وقطع دابر الفتنة... لعن الله من أوقظها بعدما كانت "شبه نائمة"! * كاتب وصحافي عربي.