لم يقل المسؤولون الأتراك في أي يوم، بما في ذلك في الفترة الأخيرة بالذات، الا أنهم أتراك أولا وأخيراً، وإن سياساتهم الداخلية كما الخارجية، تنبع من مصالح بلدهم وتصب في النهاية في خدمته. لكن ذلك لم يمنع بعض «الممانعين» العرب والمسلمين من أن يذهب مذهباً مختلفاً... ليتحدث تارة عن عودة «الخلافة العثمانية» لمواجهة امبراطورية صفوية مفترضة، وتارة ثانية عن «صلاح الدين» تركي جديد في شخص رجب طيب أردوغان لإعادة تحرير القدس، وثالثة عما يوصف ببداية «عصر تنوير» اسلامي جديد يكون من شأنه أن يسدل الستار على مرحلة من التخلف الفكري الاسلامي والوهن السياسي العربي وأن يفتتح مرحلة أخرى من الاصلاح على نسق ما كان نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولا يحتاج المراقب الى عميق تفكير، ليكتشف أن تركيا «حزب العدالة والتنمية» حالياً ليست في أي من هذه المواقع، كما لم تكن فيه في أي وقت سابق بما في ذلك في عهد تورغوت أوزال الذي بدأ الانعطافة التركية الراهنة باتجاه الشرق. كان المسعى التركي الفاشل بدوره للانضمام الى الاتحاد الأوروبي بعد سلة الشروط/العقبات التي وضعها الاتحاد في طريق هذا المسعى. كما كان صعود «حزب الرفاه» الاسلامي المتشدد بزعامة نجم الدين أربكان، ثم حل هذا الحزب نتيجة اصطدامه بالمؤسسة العسكرية والعلمانيين، وصولا في عام 2003 الى نجاح «حزب العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية وتسلمه مقاليد السلطة... لتأخذ نظرية البحث التركي عن دور ونفوذ لها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة صيغتها الحالية. ما تريده تركيا، وقد عبر عن ذلك قادتها ومسؤولوها مراراً، هو المساعدة على بناء حالة من الاستقرار في المنطقة توفر لها علاقات حسن جوار مع البلدان العربية، ودول آسيا الوسطى (أرمينيا، وأزمتها التاريخية مع الأرمن) ودول البلقان (اليونان، والوضع في قبرص) فضلا عن أوروبا نفسها. جغرافيتها السياسية تؤهلها لمثل هذه العلاقات، لكن اعتدالها السياسي من جهة وتقدمها الصناعي والاقتصادي من جهة ثانية يدفعانها بقوة في اتجاهها. ليس من شك في أن المقاربة التركية الجديدة للمسألة الفلسطينية ولقضية الصراع العربي – الاسرائيلي عموماً هي في مصلحة العرب، كما هي في مصلحة تركيا التي تبحث عن دور لها في المنطقة. لكن ما يبقى هو أن تهدأ أعصاب «الممانعين» العرب، وحتى المسلمين في المنطقة والعالم، لأن ما بين تركيا واسرائيل ليس الا «كباشا» سياسياً ومصلحياً بامتياز. كاتب وصحافي لبناني.