نأمل بأن تكون تركيا قد استوعبت الدرس وأخذت العبرة من الصفعة التي تلقتها من الاتحاد الأوروبي عندما رفض طلب انضمامها وأرجأ البت به الى فترة غير محددة بعدما وضع قائمة شروط تعجيزية مهينة، ومهد الطريق لضم قبرص اليونانية في عضويته مع عدد من الدول الأخرى! ولكن هل تعود تركيا الى جذورها وتتعرف من جديد على حقائق الأمور ومرارة الواقع ومتطلبات حتمية التاريخ وأحكام مبادئ الجغرافيا السياسية ومسلمة ان أوروبا لن تسمح بأن تكون بين صفوفها دولة اسلامية حتى ولو كانت علمانية، كما أكد لي منذ عشر سنوات بمرارة الرئيس الراحل تورغوت أوزال، رحمه الله؟ التهديد بضم قبرص التركية انتقاماً من القرار الأوروبي لن يفيد تركيا بل يمكن ان يضرها ويضاعف من عزلتها وهمومها ويعطي اليونان ورقة رابحة لمحاربتها وتشديد الضغط العالمي عليها. والاتجاه لمضاعفة "عيار" التحالف مع الولاياتالمتحدة نكاية بأوروبا التي تحاول بناء كيان مستقل لها بمعزل عن الهيمنة الأميركية لن يعطي تركيا ما تريد، وما ترغب، لأن الولاياتالمتحدة تعودت ان تأخذ ولا تعطي سوى القليل القليل ان لم يكن الفتات. ولو كان الأمر عكس ذلك لقدمت الولاياتالمتحدة كل أنواع الدعم والمساندة في مواقفها رداً للجميل وتعبيراً عن الشكر على الخدمات التي قدمتها لها خلال أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، والدور الذي لعبته كجدار في وجه المد الشيوعي والنفوذ السوفياتي في المنطقة وكعضو فعال ورئيسي في حلف الأطلسي. ولكن أياً من هذا لم يحدث وبقيت تركيا فقيرة منبوذة وكأنها ابن غير شرعي للغرب أو عضو منبوذ في عائلة غريبة عنه! اما التحالف الاستراتيجي والعسكري مع اسرائيل واجراء المناورات المشتركة والمبالغة في التقارب التركي - الاسرائيلي فإنه مجرد "زواج متعة" يستفيد منه طرف واحد فقط وهو اسرائيل طبعاً التي تنفذ سياسة صهيونية واضحة منذ أواخر القرن الماضي وهي عزل تركيا عن العرب والمسلمين والاستفادة من قدراتها لتنفيذ مآرب اسرائيل السياسية والاقتصادية وحتى المائية عبر مشروع الاستفادة من مياه الفرات. فتركيا لن تجني سوى القليل من هذا التحالف بينما تجني اسرائيل جملة مكاسب بينها تطويق العرب، وسورية بالذات، وكسب سوق مهمة، وتسويق أسلحتها وخبراتها، لقاء ثمن باهظ طبعاً، ومنع قيام أي تقارب بين الدول الاسلامية بتحويل تركيا الى شوكة في خاصرة الدول العربية والاسلامية بدلاً من كونها الدرع الواقي والمساند والمكمل. ولا يخفى على أحد دور الصهيونية العالمية في القضاء على الخلافة الاسلامية العثمانية بعد رفض السلاطين وآخرهم السلطان عبدالحميد منح فلسطين لليهود والسماح لهم بدخول أراضيها والاقامة في القدس وقوله: "أقطع يدي ولا أبيع فلسطين" عندما عرضت عليه اغراءات مادية كبيرة. وجاء حزب الاتحاد والترقي وحزب تركيا الفتاة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك ليلعبا الدور المعروف باسقاط الخلافة 1924 واعتماد العلمانية وشن حرب على كل ما هو اسلامي ومنع استخدام الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني ونقل العاصمة من استانبول الى أنقرة. وعلى رغم كل أشكال القمع التي اتبعت لمحو الهوية الاسلامية في تركيا وارهاب المسلمين الأتراك بعد سيطرة "اليهود الدونمة" على الجيش والحكم والاعلام والمال والاقتصاد فإن الشعب التركي بقي محافظاً على ايمانه وجذوره تماماً كما فعل أبناء شعوب الجمهوريات الاسلامية الآسيوية الذين صمدوا أكثر من 70 سنة من الحكم الشيوعي الديكتاتوري. وقد جرت محاولات عدة للعودة الى الأصول أولها في عهد رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس الوزراء عدنان مندريس حيث اتخذت اجراءات مخالفة للعلمانية وتعليمات أتاتورك في اعادة التعليم الديني الى المدارس والسماح بالآذان باللغة العربية واذاعة القرآن الكريم في الاذاعة ولكن الجنرالات سارعوا لاجهاض المحاولة وقادوا انقلاباً حمل جمال غورسيل وعصمت اينونو الى الحكم 1960 ليعيدوا قيود العلمانية. وثانية المحاولات العاقلة كانت بقيادة تورغوت أوزال وهو رجل محنك ومؤمن وبراغماتي وواقعي استطاع بذكائه وقوة شخصيته ان يعيد بشكل تدريجي الوجود الاسلامي لتركيا. وقد أكد لي مرة انه يؤدي فريضة الصلاة 5 مرات في اليوم ويصوم رمضان، بل انه تجرأ وأدى فريضة الحج وأقام المآدب الرمضانية وصلى صلاة الجمعة في المسجد، كما انه تمكن من ضم تركيا الى منظمة المؤتمر الاسلامي ورابطة العالم الاسلامي وأقام علاقات متينة مع معظم الدول العربية والاسلامية. وشهدت تركيا بعد وفاته أكبر جنازة شعبية في تاريخها. حمل المشاركون فيها لافتات: الله أكبر، لا اله الا الله، الاسلام ديننا والقرآن شريعتنا. مما دفع العلمانيون الى دق ناقوس الخطر والتحذير من موت الكمالية والعلمانية، ودفنها يوم تشييع أوزال ودفنه بجوار مندريس الذي أعدم بسبب دفاعه عن الهوية الاسلامية. اما المحاولة الثالثة فكانت على يد حزب الرفاه بزعامة أربكان واجهضت وهي في مهدها لأسباب كثيرة بينها شراسة الجنرالات والعلمانيين، وتسرع أربكان في تنفيذ سياسته، وافتعال استفزازات لاثارة مخاوف داخلية وخارجية واتباع سياسة الترهيب والترغيب ضد عدد كبير من السياسيين والنواب وقادة الأحزاب. ومع نجاح التيار العلماني بقيادة الجيش وجنرالاته الكبار الذين قضوا على أي ضابط له اتجاه اسلامي وقعت تركيا في مأزق لا مخرج منه الا بالعودة الى العقلانية والتعامل مع الواقع بمرونة وحكمة. فالأوضاع الداخلية معقدة ومتشابكة بشكل مخيف، وكذلك الأمر بالنسبة للتعقيدات وتقاطع الطرق والألغاز في السياسات الخارجية، ولهذا فانها تحتاج الى منقذ يخرجها ليس من المأزق الراهن بل من الفخ الاسرائيلي ايضاً، لأن السياسة الحالية ستجلب الخراب والضعف في المجالين الداخلي والخارجي. ففي الداخل هناك مشاكل اقتصادية ملموسة وفقر واضح ونقمة عارمة، وهناك أيضاً صراعات عرقية وطائفية وحروب وأزمات مع الأكراد والعلويين والاسلاميين الذين يشكلون أكثر من نصف السكان ان لم يكن أكثر. أما على الصعيد الخارجي فهناك تأزم مستمر مع دول الجوار: ايران وسورية واليونان، لهذا لا بد من سياسة عقلانية وحنكة وحكمة حتى تعود تركيا الى محيطها قوية معززة مكرمة، وتلعب دورها المميز مع الدول العربية والاسلامية، ولا سيما في الجمهوريات الاسلامية الآسيوية، ويبدأ العمل لاقامة منظومة اقتصادية وأمنية اقليمية تبني نواة قوة مرهوبة الجانب ومنطقة تسعى للأمن والاستقرار والبناء والسلام في عصر التكتلات الكبرى. فهل تلتقي "براغماتية" تركية مطلوبة بالحاح مع "براغماتية" ايرانية مقترحة ومطروحة بقوة هذه الأيام؟ وهل يتم هذا اللقاء في منتصف الطريق بعد تخلي طرف عن أقصى درجات التطرف الديني والدعوة لتصدير الثورة لقاء تخلي الطرف الآخر عن أقصى درجات التطرف العلماني والعداء لكل ما هو اسلامي وديني؟ هذا ما أتمناه ويتمناه كل عربي لأن تحقيق هذا الانجاز التاريخي سينقل المنطقة من عهد التوتر والخوف والحروب والأزمات الى عهد الأمن والأمان والتوازنات الطبيعية والاستقرار ويجبر اسرائيل على اعادة النظر في سياساتها وحساباتها للتخلى عن تعنتها وتزيل العقبات أمام مسيرة السلام؟ ولكن هل تسمح اسرائيل والصهيونية العالمية بمثل هذا التحول؟ وهل يترك اللوبي الصهيوني في تركيا ومراكز قوى يهود الدونمة هذا الانجاز بسهولة؟ انه سؤال محير، وأمر صعب التحقيق خاصة وان أوزال كان قد شرح لي باسهاب الخلفيات التاريخية للمواقف التركية، ونفوذ مراكز القوى، وتبريرات الاستراتيجية الثابتة وبينها تعزيز التحالف مع اسرائيل لكسب دعم اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة في وجه اللوبي الاغريقي اليوناني القوي وانعكاسات ذلك على الصراع مع اليونان والموقف العسكري والسياسي في قبرص بالاضافة الى الاعتبارات التي أشرت اليها من قبل. هذا عن تركيا… ولكن ماذا عن ايران؟ لقد نجح الرئيس محمد خاتمي في احداث نقلة تاريخية وحضارية في ايران عبر التحول من منطق الثورة الى منطق الدولة عبر سياسة عقلانية براغماتية مهد لها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني. وجاءت القمة الاسلامية لتكرس شرعية هذا التحول الذي فتح فيه خاتمي الأبواب والنوافذ أمام المصالحة مع العرب… ومع الغرب عبر الدعوة للحوار لاقامة علاقات متينة مع السعودية ودول الخليج، وفتح صفحة جديدة مع العراق ونسيان الماضي الأليم، وتصحيح مسار العلاقات مع مصر والأردن واقامة جسر من التواصل مع المغرب. والتوجه بخطاب ايجابي منفتح الى الولاياتالمتحدة وما أسماء بالشعب الأميركي العظيم وليس الطاغوت وقوى الاستكبار والشيطان الأكبر حسب الخطاب القديم بعد المصالحة مع الدول الأوروبية. وهذا تحول مهم وجذري رغم ان العرب يطالبون بالأفعال بعد الأقوال، كما صرح أمير البحرين أخيراً، لأن المضي قدماً في ترجمة هذه السياسة العقلانية الواقعية يعني انتعاش الآمال بمستقبل آمن واستقرار وتعاون ودخول مرحلة جديدة لا تهديد فيها ولا وعيد ولا تصدير ثورة ولا خوف من عنف أو تطرف أو تدخل في شؤون داخلية أو ثقة مفقودة ومخاوف من فتن طائفية، كما ان تحقيق مثل هذا الانجاز يعني تخفيف حدة التوتر وبالتالي انتفاء الحاجة الى سباق التسلح والوجود الأجنبي في المنطقة، وانتهاء عهد الهيمنة واستطراداً توجيه الطاقات للبناء الداخلي وحل المشاكل الداخلية وتحويل ميزانيات التسلح الى الاعمار والتنمية وايجاد فرص عمل لملايين العاطلين اضافة الى حلحلة عدد من الأزمات المعقدة مثل حرب أفغانستان والتنافس التركي - الايراني في مناطق عدة، ووحدة أراضي العراق والبديل المعتدل للنظام الحالي بعيداً عن أية تدخلات من الجيران أو الأطراف الأخرى لأن العقدة الأساسية كانت الخوف من حرب أهلية اذا سقط النظام أو حصول تدخل ايراني لايصال انصارها الى سدة الحكم مما يدفع المنطقة الى حافة حرب لانهاية لها وصراعات قد تستمر عقوداً طويلة والى اخلال فادح بالتوازنات القائمة. ولا شك ان العبرة في النفوس قبل النصوص، وفي الأفعال لا في الأقوال، والمرحلة المقبلة ستشهد امتحانات عدة للتحول الايجابي الايراني من بينها كيفية التجاوب مع الدعوات العربية للحوار من اجل حل قضية الجزر الاماراتية المحتلة، وآلية التقارب مع دول الخليج وكيفية التصرف خلال موسم الحج المقبل، ومصير الحوار مع واشنطن والغرب وغير ذلك من القضايا الساخنة المطروحة. ولكن السؤال المطروح هنا أيضاً يشبه السؤال المطروح في تركيا وهو: هل سيسمح بمثل هذا التحول الكبير نحو العقلانية والواقعية؟ وهل يترك خاتمي حراً في تنفيذ سياسته وتطلق يده في تحقيق مثل هذه الانجازات؟ وهل سيسلم اليمين المحافظ رايته بمثل هذه السهولة؟ لا شك ان المسيرة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وان خاتمي سيواجه عراقيل ومصاعب، وسيسير على حقول الغام محفوفاً بدعم شعبي كبير وتأييد أكثر من 20 مليون ايراني صوتوا له ولسياسته بعد 18 سنة من عهد حكم الثورة على أمل التحول الى عهد الدولة. ولكن أين موقف العرب من هذه التحولات؟ وأي مفترق طرق يقفون عليه الآن؟ وما هي السياسة التي يفترض ان يتبنوها؟ لا يختلف اثنان على ان من مصلحة العرب فتح النوافذ والأبواب في وجه الحوار البناء وتشجيع الانفتاح والاعتدال والواقعية والعقلانية في كل من تركياوايران. ولا بد من مبادرات لترجمة هذه السياسة وتحقيق هذه الآمال. لأن حدوث مثل هذا التحول يصب في مصلحة العرب تماماً كما يصب في مصلحة ايرانوتركيا والمسلمين عموماً، وتيار الاعتدال والواقعية ودعاة "أمة الوسط" فقد جرب الجميع ويلات التطرف في كافة الاتجاهات ولم يجنوا منه سوى الخراب والدمار والحروب والأزمات والشقاق والنفاق، وعليهم الآن ان يسلكوا طريق البراغماتية ومتطلبات المصالح العليا وحتميات الجغرافيا السياسية والمتغيرات الدولية الكبرى. وأية انتكاسة في هذا المجال ستعيد المنطقة الى دوامة العنف والتطرف والحروب والارهاب، وتعطي اسرائيل الذريعة والحجة والقوة للمضي في سياستها التوسعية المتعنتة، وامكان اطلاق يدها في المنطقة عن طريق اثارة الفتن والاستفادة من الفرقة والخلافات والتشرذم. طريق الحوار البناء والمصالحة والمصارحة مفتوح اليوم… ولا بديل له سوى الانتحار والفناء والدمار…!