في زمن الحرب الباردة كانت الولاياتالمتحدة زعيمة للعالم الحر، وأصبحت اليوم زعيمة للعالم. واسقاط الصفة عن الموصوف يكرّس واقعاً جديداً، فإما أن العالم كله غدا حراً، وهو ليس كذلك بالتأكيد، أو أنه فقد حريته في ظل نظام القطب الواحد المنافي أصلاً للديموقراطية. وعلى عهد المجابهة كان لكل من القطبين المتصارعين مفهومه عن الحرية ومعاييره لتقويم الأخلاق. إذ ان منغستو هايلي مريام لم يكن في نظر موسكو ديكتاتوراً أقام حفلات دموية في اثيوبيا بل "مناضلاً" ضد الامبريالية. وعلى الطرف الآخر أيدت واشنطن "بابا دوك" جزار هايتي وطاغية النيكاراغوا، سوموزا. والمعايير المزدوجة أسوأ ما سيحمله العالم من متاع عند انتقاله الى القرن الواحد والعشرين، خصوصاً ان "الزعيم الأوحد" لم يعد له من ينافسه ولذا فإنه يفرض المقاييس التي يشاء. وليس صحيحاً ان الولاياتالمتحدة تعتمد مكيالين، بل ان في جعبتها مكاييل عديدة، حسب الطلب والاقتضاء. فهي كسبت تأييد عدد كبير من دول العالم بحملها سلوبودان ميلوشيفيتش على وقف حملات التطهير العرقي في كوسوفو، وبدعمها حق السكان الألبان في تقرير المصير. ولكنها لم تستطع ان تقدم تفسيراً معقولاً لسكوتها عن حجب الحقوق القومية للأكراد في تركيا واستخدام القوة ضدهم، بل عبور حدود دولية لمطاردة من حمل السلاح منهم. ولكن إذا كان من حق الألبان في كوسوفو ان يقاتلوا في سبيل حريتهم، فلماذا تلصق صفة الارهاب من "اقترف الجرم" ذاته في مكان آخر؟ واضح ان هناك مكيالاً مختلفاً للتعاطي مع دولة حليفة، وثمة مكيال ثالث للتعامل مع بلد اثير له موقع خاص لدى الإدارة الأميركية. فلم نسمع يوماً ان حلف الأطلسي جيّش الجيوش لإرغام اسرائيل على الانسحاب من أرض لا تملكها أصلاً أو حشد طائرات لإجبارها على الكف عن هدم البيوت على رؤوس أصحابها أو أجرى تحقيقاً للكشف عن مواقع انتاج أسلحة الدمار الشامل فيها. وإذا صدرت عن واشنطن كلمة عتاب رقيق فإنها تترافق بسيل من التقريع والوعيد ل "ارهابيين" فلسطينيين بلغت بهم "الوقاحة" حد المطالبة بحقوقهم. ولكن يحق لجوبيتر ما لا يحق للثور، في العالم... الحر؟