هل تفتعل تركيا مشكلة مع العرب لكي تعالج ازمة هويتها؟ تتجلى هذه الأزمة بشكل مباشر بافتعال ازمات مع دول عربية مثلما هو حاصل الآن مع سورية، كما تعبر تركيا عن الهروب منها بمفردات ونصوص استفزازية مقصودة وتصور لذاتها كونها الدولة المرشحة للهيمنة على المنطقة، ودولة قادرة امام دول عربية متفرقة متباينة ومتباعدة لا يركن اليها ولا تستطيع تحمل أية مسؤولية. هذا التقويم لحالة الأمة العربية - وهو في مجمله صحيح - كان يجب ان يكون مدخلاً الى مساهمة تركية في عملية تصويب للحال العربية بدلاً من التمحور مع اسرائيل بغية اهدار طاقات الأمة العربية وكأنها مثل اسرائيل تتصور دوراً لها من خلال دوام الانقسام في الصف العربي العام. نقول هذا ويمتلكنا حزن عميق لأن ما يربطنا بتركيا اقوى بكثير مما يفرق بيننا وبينها، لكن امعان المؤسسة الحاكمة التركية في تهديد مصالح العرب الحيوية والشرعية - كما هو حاصل مع سورية الآن - وجعل استهداف عروبة الأمة اولوية في جدول اهتماماتهم يدفعنا الى ان ننفذ الى حقيقة الدوافع التي تجعل من تركيا الحالية تتصور ان مرونة التجاوب العربي المتمثل بالموقف السوري ومحاولات مصر والسعودية الجادة للحيلولة دون تفاقم النزاع هي دليل ضعف بدلاً من التقويم الأدق بكونها دليلاً على وعي وحكمة. ان ما نشاهده في المنهج التركي الحاكم، تجاهنا اجمالاً وتجاه سورية على الأخص، ناتج عن أزمة الهوية التي يعيشها شعب تركيا وحكامه. لقد اشرنا في مقال سابق الى بعض تجليات هذه الأزمة. ولكن حان الوقت كي ننفذ الى صلب مقدمات وأسباب هذه الأزمة كونها تربك العلاقات العربية مع تركيا لا مع الأتراك وكون معالجتها تتطلب احاطة بأسبابها ودوافعها وأهدافها. هذا الموضوع اهمل الى حد كبير واكتفى الطرفان التركي والعربي بمسلسل من المجاملات والعلاقات السياسية الباهتة بدلاً من التفاعل الفكري والحوار الصريح الذي لا مفر منه لنفهم بعضنا بعضاً. اذا تم الفهم المتبادل نستطيع عندئذ تفعيل العناصر التواقة عند العرب وعند الشعب التركي لاستقامة العلاقات وتنشيطها بما يمليه انتماء الأمتين الى حضارة وقيم روحية وانسانية واحدة - اي الاسلام. لماذا توجد في تركيا ازمة هوية؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح ولا بد على الأقل من الاشارة الى بعض عناوينها، لعل هذا يكون حافزاً لوضع استراتيجية واضحة المعالم، وإلا فان الاضرار ستؤول على كل من الطرفين وستمنعهما من وضع أسس التنمية المستديمة لكل من الامتين. ماذا نعني بپ"الأزمة"؟ الأزمة تكمن في الفجوة القائمة بين ما هو حاصل وما كان في الامكان أن يحصل، بمعنى آخر ان ما كان يمكن - ضمن الامكانات المتوافرة - ان يحصل لم يتم لأن فرصاً ثمينة فاتت وبقيت من دون توظيف. الهوية تندرج في اطار تأكيد الانتماء القانوني والشرعي الى دولة مستكملة السيادة، وأمة بدأت تستكمل تحررها ووحدتها ونهضتها. اذاً، اين تكمن ازمة الهوية في تركيا؟ تكمن في نظري في الشرخ القائم في الجسم السياسي التركي، اذ تتأرجح الهوية بين رغبة في انتماء اوروبي وغربي اجمالاً وبين التصاق قائم مع الحالة الاسلامية السائدة التي تمحض الأتراك تواصلاً تاريخياً، كذلك انتماء الى اطار اوسع يصون من خلاله وحدة التراث والمصير. ان ما يعجز بعض الأتراك النخبويين عن فهمه ان تركيا امة ودولة تعيش ازمة هوية في حين ان العرب لا يعانون - على الأقل بالمقدار ذاته - ازمة هوية بمقدار ما يواجهون ازمة مرجعية. لقد اتيح لي في عام 1996 ان أزور تركيا مرتين لأعمال تتعلق بالمؤتمر العالمي للاسكان. وأجريت اثناءها حوارات مع عدد من الذين يعملون في مجال الاسكان. وكان حزب الرفاه الاسلامي على وشك استلام الحكم، وادركت اثناء هذه الزيارات كم ان الانقسام الحاد بين ما سمي بالعلمانيين والاسلاميين يشكل مأزقاً من شأنه ان يؤدي الى استقطاب مخيف ينطوي على خطر محدق بالوحدة الوطنية لتركيا، كما من شأن هذا الانفصام ان يعزز التطرف والتزمت في المجتمع التركي. لذا يوجد خطر اضافي بأن حدة الانقسام تدفع الى القيام بمغامرات متهورة وردود فعل مستشرسة ستحصر التصادم والمجابهة وفي كثير من الاحيان تفتعله. هذه الازدواجية في تحديد عناصر الهوية وبلورة وجهة الانتماء ناتجة عن تجربتين تاريخيتين: العثمنة والكمالية. في عصر الخلافة عندما كانت اسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية كانت تركيا المنفتحة على قوميات متعددة وكانت الخلافة مرجعية دينية وزمنية للمواطنين والرعايا في اثناء الخلافة التي تخللها عهود منها نهضوي ومنها مظلم تأثرت النخب المثقفة بالمبادئ والتيارات القومية والاثنية التي ظهرت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والتي ارتبطت بمبادئ ليبرالية عامة. ونتيجة تفاعل هذه التيارات مع الوضع في الامبراطورية العثمانية قامت حركة "تركيا الفتاة" والتي دعت الى ان تركيا الطورانية هي المؤهلة لادارة ومن ثم اخضاع مختلف الاعراق والانتماءات المذهبية والدينية المتواجدة في ارجاء العالم العثماني لاحكامها وهيمنتها. كان من جراء عملية التتريك التي اتخذت اشكالاً متعددة كونها قسمت الولاءات في ارجاء الوطن العربي بين حركات وطنية حرصت على عثمنتها كإثبات لهويتها الاسلامية وبين من اعتبروا مثل الأتراك متساوين في تأكيد الهوية القومية من دون ان يعني ذلك اي افتراق او ابتعاد عن اصالة الانتماء للاسلام. كما ان نشوء الوعي القومي للعرب لم يتلازم في البدء مع تمرد على الولاء للعثمنة بقدر ما كان تعبيراً عن حق في التساوي والشراكة. لكن ما كادت الطورانية تؤسس للسيطرة على مقدرات الديار العثمانية حتى تنامت الحركة الانفصالية العربية كون الانفصال اعتبر مدخلاً لحماية الهوية العربية من الطمس والتهميش. ونشير باختصار شديد الى هذه الخلفية لأن تياراً مهماً في المؤسسة الحاكمة يعتبر ما سمي بالثورة العربية بأنها كانت بمثابة "الطعن في ظهر تركيا". عندما سمعت هذا الوصف لم اصدق ان مثل هذا الكلام يصدر عن استاذة ومثقفة معروفة تردد لي مثل هذا التشويه لدوافع التمرد الثورة التي استهدفت استباق عملية الالغاء للهوية العربية وحمايتها من الطمس والذوبان. الا ان المفارقة تكمن بأن امثال هذه المثقفة المرموقة هم من اشد المتمسكين بأهداب الكمالية نسبة الى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة يعني ان الكمالية اخرجت تركيا من العثمنة بعد الحرب العالمية الأولى وبلورت فكرياً مفاهيم ديموقراطية غربية وصلت الى حد التقليد وما دعت لعلمانية تحولت في عصبيتها الى اصولية متشددة قامعة لأي تعبير عن انتماء ديني مغاير للتفسير السائد في كثير من الاوساط الثقافية والمؤسسة الحاكمة. هؤلاء الكماليون فسروا نشوء التيار القومي العربي وكأنه تمرد على الامبراطورية التركو - عثمانية بعد عام 1908 في حين ان خلفية هؤلاء المثقفين - تركيا الفتاة - كانت قريبة فكرياً من الاسس الفكرية التي أدت الى الانتفاضة على انفلاش الديار التي تحكمها اسطنبول في ذلك الوقت. لكن برغم ان التمرد العربي على تتريك الدولة العثمانية كان مدفوعاً بالافكار نفسها ومتأثراً بالقوى الغربية نفسها الا ان كثيراً من الأتراك يعتبرون ان الثورة كانت على تركيا لا مجرد تأكيد عروبة الهوية. كانت محاولتي اثناء هذا النقاش اثارة موضوع العلاقات التركية - العربية ان استطيع الاسهام بشكل بسيط في قيام حوار تركي - عربي يجعل التفاهم ممكناً ويحول دون تنامي الخلافات الحالية حول قضية الأكراد ومياه الفرات وغيرها من القضايا العالقة بين تركيا ومختلف الاقطار العربية. صحيح انني سمعت الكثير عن استياء الأتراك من العرب لكني اعتبرت ان وصف الاستياء مبالغ به الى ان اتيح لي في اسطنبول وفي مارماديس التكلم والحوار لأيام عديدة مع زعماء ومسؤولين ومعارضين أتراك. تبين لي على اثرها ان حملة التكريه للعرب مادة رائجة اكثر بكثير مما كنت اتصور وفي اوساط لم اكن انتظر منها ان تكون بهذه الدرجة من الابتعاد. كان لا بد لي بعد هذه التجربة المرة ان اسعى للنفاذ الى مسببات التوتر القائم في العلاقات التركية - العربية لأني كنت ولا ازال اعتقد بأن عامل التحريض قائم ومستمر على العرب... بل على العروبة. وبرغم ان النتائج التي توصلت اليها بعد الاحاطة بمختلف ابعاد العلاقات التركية - العربية تبين لي - برغم عدم استطاعتي الحسم - ان محاولة الاستقواء على العرب تعود الى عناصر لا تمت الا بشكل ضئيل الى تاريخ ما قبل الحرب العالمية الأولى. فعندما كانت الشرعية كامنة في الخلافة كانت هي الشرعية السائدة وبالتالي المقبولة عند معظم الرعايا العرب. اذاً اين تكمن الازمة؟ سؤال نكرره على انفسنا لعلنا، من خلال النفاذ الى حقائق الوضع التركي وموقفه تجاهنا، نستطيع لا الاجابة على السؤال فحسب، بل وضع اسس لحوار مكثف وهادف وقادر على تجاوز الاشكالية الحالية القائمة بين تركيا والعروبة. ما أقوم به في هذا المجال من محاولة الاجابة هو في غاية الصعوبة. لكن حرصاً على مستقبل العلاقات لا بد من حوار صريح ينطوي على نقد من موقع الالتزام بضرورة قيام صداقة عربية - تركية لا من موقع التربص كما تعمل اسرائيل دفع تركيا الى مزيد من الاستفزاز لعلنا نقع في المصيدة التي يعمل المتربصون لأمتنا العربية وقضاياها المصيرية ايقاعنا بها. في تركيا قلق شديد نابع عن ماهية العالم الذي تنتسب اليه، صارت الكمالية بالنسبة لتركيا المعاصرة تعني انقطاعاً عن الارث العثماني والتوجه غرباً اقتناعاً منها ان هذا يؤهلها القيام بأدوار تمكنها من الهيمنة على من هم خارج حدودها. والسؤال الذي ظل يتردد هل تركيا جزء من أوروبا ام من العالم الاسلامي، وحيث ان تركيا رغم التصاقها بالغرب ودعم الغرب لها لم تستطع الانسلاخ عن اسلاميتها. لكن اذا تعمقنا اكثر في هذا لوجدنا أن الصيغة التوفيقية التي توصل الحكم إليها قائمة على بقاء "علمانية" شرسة من دون اعلان انقطاع عن اسلام مواطنيها. هذا عنى ان تركيا الحكم، عملت وان بتقطع، على ترجمة معركتها مع إسلامها إلى مجابهة متواصلة مع العروبة. وحيث ان الإسلام والعروبة متلازمان من حيث المنشأ تاريخياً ومن حيث ان الإسلام اعتبر إلى أمد طويل أنه الثورة القومية الأصيلة للعرب صار اللجوء إلى الطعن بعروبة الانتماء الغطاء التي حاولت الكمالية - ولا تزال - تتستر وراءها السلطات التركية لاحتواء وتهميش البعد الإسلامي في ثقافة وقيم تركيا الحديثة. اعتبرت تركيا نفسها امتداداً للغرب... أو هكذا اعتقدت. كلفها الحلف الأطلسي بمهمات رد للمد السوفياتي في الشرق الأوسط أثناء الحرب الباردة. لم تدرك تماماً ان تفويضها بمهمات غربية محصور في ما تقوم به من وظائف عسكرية في المنطقة. لكن تركيا تصورت ان اعلان انتسابها للغرب وتكليف الغرب لها القيام بمهمات استراتيجية محضة يؤكد ثقة مطلقة بها، وبالتالي هذا بدوره يعطي المؤسسة الحاكمة قدرة على شمل من يتحدى تفسيرها الفج للكمالية ولعملية التشويه والتزوير للعلمانية التي تبنتها وللحداثة التي ادعتها لنفسها. ما كادت السلطة الحاكمة في تركيا تتصور أنها أقرب إلى الغرب وأبعد من عالمها الإسلامي، حتى فوجئت بنتائج انتخاب أعلى نسبة من نواب البرلمان من حزب الرفاه واستلام اربكان رئاسة الحكومة، وأعدت نفسه المؤسسة العسكرية الحاكمة لمواجهة مع التيار الإسلامي المتعاظم كرد فعل طبيعي ومنطقي للمجافاة التي أظهرتها تجاه قناعات والتزامات مختلف شرائح الشعب التركي. لم يكن حزب الرفاه معادياً للعلمانية بمعناها الأرحب والأشمل، بل للزور الذي لحق بها والذي بدوره أدى إلى ممارسات قمعية جائرة تحت ستار الدفاع عن "المصلحة العليا للدولة". وما كادت ان تنجح سياسة تفتيت تحالف الرفاه مع حلفائه حتى أخذت السلطة على عاتقها حملة الالغاء لأية حركة اسلامية وكأنها تشير الى ان تركيا حاسمة في انتمائها للغرب كحسمها في اغتراب عن عالمها الاسلامي. تزامنت هذه الحملة على البعد الاسلامي في السياسة العامة مع طلب تركيا ان تكون عضواً في المجموعة الاوروبية، وكان الرفض الاوروبي لها مذلاً اذ ان الغرب اعتبر تركيا مسؤولة عن مصالح غربية وليست منتمية له. نتج عن هذا الرفض الاوروبي لتركيا احراج مؤسستها الحاكمة خاصة انه في هذه المرحلة بالذات صارت محارق للمسلمين في البوسنة والآن في كوسوفو ولم تستطع تركيا ان تقوم بما يكفي لتوجيه قواتها وحتى ديبلوماسييها لحماية من اعتبروا انفسهم امتداداً حضارياً ودينياً لتركيا وريثة العصر العثماني الذي بقي في ذاكرة مسلمي اوروبا وعلى الاخص مسلمي اوروبا الشرقية. وبدل ان تعود تركيا الى حظيرتها الطبيعية وتتمرد على سياسات التمييز التي مارستها اوروبا في ابعادها تركيا عن ابوابها اقنعت المؤسسة الحاكمة - بوجهيها العسكري والمدني - ان اوروبا لم تعد الغرب او على الاقل لم تعد الغرب الذي عرفته - بل اخرجت مفهومها للغرب وتعريفها له ان العمود الفقري للغرب هي الولاياتالمتحدة وعلى نطاق المنطقة - اسرائيل. من هنا توجهت تركيا الحكم وتركيا العسكريتاريا الى تحالف مع اسرائيل المتحالفة بدورها مع الولاياتالمتحدة استراتيجياً. وهكذا اعتقدت تركيا انها استبدلت الغرب الاوروبي الذي صدّها ومنعها من الانتماء اليه بالغرب الاميركي - الاسرائيلي، الذي رحب بها وضمها اليه. المهم ان تركيا التي صدتها اوروبا كانت قلقة ان يكون البديل لها عودة الى عالمها الطبيعي. وهكذا فتركيا اليوم ذات الهوية المتأرجحة بين عالمها الطبيعي وسعيها للانتماء الى كيان غريب دخيل على المنطقة هو ما يدفع تأجيل موضوع ازمة الهوية التي تجابهها. أشرت في بدء هذه العجالة الى الحزن الذي نكتب في هذا الموضوع. لكن برغم ان تركيا الحكم تسعى لاستفزاز العرب والابتعاد عنهم فنحن بدورنا نعمل على العضّ على جراحنا من اجل علاقاتنا المتعددة الاوجه مع الاتراك والرد على الاستفزاز والتهديد الذي تقوم به تركيا الحكم بالتركيز على ثوابت اللحمة بيننا. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن