كان آخر ما قرأتُ في ما يتعلق بقصة الرئيس كلينتون مع مونيكا لوينسكي، ما كتب على غلاف إحدى المجلات الاميركية المصوّرة، بالخط العريض، وبجوار صورة غير مألوفة لكلينتون، وقد أحاطت بإحدى عينيه هالة كبيرة من السواد، كالتي تراها على وجوه الملاكمين أحياناً بعد أن يكونوا قد تلقوا في عيونهم ضربة شديدة من الخصم. كان ما كُتب بجوار الصورة أن كلينتون تلقى ضربة كهذه من زوجته هيلاري بسبب ما فعله مع مونيكا، وأن البيت الأبيض يحاول أن يتكتم خبر الضربة حتى لا يشيع بين الناس. كان هذا آخر الطرائف التي تحاول بها الصحافة الاميركية تسلية الشعب الاميركي، مما يذكر بالكلمة الشهيرة والمنسوبة لأحد أباطرة الرومان ومؤداها أن الجمهور لا بد من إسكاته وترضيته بأمرين: "الخبز والسيرك"، أي الطعام، والتسلية. أما الطعام في اميركا فمتوفر بسبب الرخاء الاقتصادي، وأما السيرك، فهو عمل مستمر تساهم فيه وسائل الإعلام بأكبر نصيب. ولكن هذا الذي نشر عن كلينتون ذكّرني أيضاً بشيء آخر، فكنت قد قرأت مرة أنه عندما صدرت أول جريدة في الولاياتالمتحدة، لم تكتب الجريدة في صفحتها الأولى أنها جريدة يومية أو اسبوعية أو شهرية، بل كتبت أنها "جريدة تصدر عند الحاجة"، أي عندما تكون ثمة أخبار تستحق النشر. من المؤكد أن قصة كلينتون مع صاحبته لو كانت قد حدثت منذ نحو قرنين أو أكثر، عندما صدرت أول جريدة اميركية، لتجاهلتها الصحيفة تجاهلاً تاماً، ولو افترضنا أنه لم يكن هناك وقتها خبر أكثر أهمية من ذلك فلا بد أن الجريدة كانت، ستمتنع عن الصدور. كم كان هذا القرار حكيماً وصائباً. ألا تصدر الجريدة إلا عند الحاجة، فالمرء لا يحتاج الى أخبار جديدة باستمرار، ومن المؤكد أنه ليس هناك دائماً أخبار جديدة تستحق الذكر. والمثل الانكليزي المشهور صائب بدوره وحكيم تماماً، وهو المثل القائل: "إن عدم وجود أخبار هو في ذاته خبر سار". فما أعظم ألا تكون هناك أخبار تستحق الذكر، إذ معنى ذلك أن كل شيء على ما يرام، أو على الأقل أن كل شيء يسير بالطريقة المألوفة. ولكن مع الأسف لم يعد الأمر كذلك، فلسبب أو آخر لا بد أن تصدر الجريدة كل صباح، ولا بد أن تكون عناوين الصفحة الأولى بحجم معين يستلفت النظر. فإذا كان الخبر المتوفر لدى الجريدة لا يستحق هذا العنوان الكبير بذاته، فلا بد أن يعثر على طريقة لتحويله الى خبر يستحق هذا العنوان الكبير. فإذا كانت هيلاري لم تضرب كلينتون حقيقة، فلا بد أن يبحث عن طريقة يصور بها هذا الضرب على أنه على الأقل محتمل أو راجح الحدوث. فإذا تصادف أن حدث في اليوم الواحد حادث بتفاهة احتمال ضرب هيلاري لكلينتون، وحادث سقوط امبراطورية كبيرة أو مقتل زعيم خطير، فهنا فقط يمكن أن تتجاهل الصحيفة خبر هيلاري وكلينتون تماماً على أساس أنه خبر غير مهم. في الصحافة تغيّر الحال إذن، مثلما تغير في حياتنا الاقتصادية كلها. لم يعد الطلب يخلق العرض، أي لم تعد حاجة الناس هي التي تحدّد ما يُنتج أو يُنشر، بل أصبح العرض هو الذي يخلق الطلب، أي أن ما يقرر المنتجون انتاجه لسبب أو آخر هو الذي يحدد رغبات المستهلكين: انتج ما تشاء مهما كان تافهاً ثم ابحث عن طريقة لإيهام المستهلكين بأهميته. وكذلك في الصحافة: اكتب وانشر ما تشاء، وما عليك إلا أن تصوّر للقراء أن ما تكتبه وتنشره يستحق القراءة، ولو تعلق الأمر بضرب هيلاري لكلينتون. * كاتب مصري.