توفي الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني عام 1979 في احد المستشفيات في الولاياتالمتحدة الاميركية وحيداً حزيناً. كان الجميع تركوه يواجه مصيراً قاتماً مع نظام الحكم البعثي في العراق بعد اتفاقية الجزائر بين صدام حسين وشاه ايران. خذله الشاه وتخلى عنه الكثير من أصدقائه فآثر القاء السلاح وترك الاكراد تحت رحمة صدام حسين ورحل الى واشنطن للاستشفاء من المرض الذي حلّ به. لم يكن كل هذا ثقيلاً على كاهله مقارنة بالحسرة التي كانت تخنقه من الموقف الاميركي ازاءه. كان الاميركيون وعدوه بالكثير ولكن، حين حانت ساعة النهاية، نسوه ونسوا الوعود. وأمطر البارزاني الاميركيين بالرسائل والبرقيات يحثهم على انقاذه وانقاذ الاكراد من الهلاك. وردّ هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، بالقول ان السياسة تختلف عن الاعمال الخيرية. في ما بعد، حين حلّت بالاكراد كارثة الانفال والغازات الكيماوية عام 1988 ذهب القادة الاكراد، خلفاء مصطفى البارزاني، الى واشنطن يشكون حالهم والمآسي التي تحل بهم. ومن جديد رفض الاميركيون الانصات واكتفى موظف ثانوي في الاستخبارات الاميركية بلقاء هؤلاء في مطعم صغير بعيداً عن عيون الديبلوماسيين والاعلام. لم يتوقف الامر عند هذا الحد، فقد رفضت الخارجية الأميركية، مرات كثيرة، منح الزعماء الاكراد تأشيرة دخول للولايات المتحدة وذلك بوصاية من الحكومة التركية التي دأبت على اعتبارهم "ارهابيين وانفصاليين" على الرغم من كونهم رعايا عراقيين. ولكن، ها هي المفاجأة. فالسيد مسعود البارزاني، ابن مصطفى البارزاني، والسيد جلال الطالباني الذي بقي مساعداً مقرباً لمصطفى البارزاني فترة طويلة، يقفان في البيت الابيض ويصافحان، تعلو وجهيهما ابتسامة بارزة، وزيرة الخارجية الاميركية وكبار مساعديها. فان تقوم مادلين اولبرايت باستقبال زعماء احزاب معارضين للحكومة المركزية في بلدهم امر لا يتكرر كل يوم. لكنه، لهذا السبب بالذات، يمثل موقفاً نادراً وينطوي على معان كثيرة. ان مسافة طويلة تفصل مرحلة هنري كيسينجر عن مرحلة اولبرايت. فوق هذا، تبدلت اشياء كثيرة في صورة العالم. لقد سبق ان استقبل الاميركيون الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي كان، في زمن كيسينجر، ممنوعاً من دخول واشنطن منظوراً اليه كپ"ارهابي". لكن المفارقة تكمن هنا. فاذا كانت الادارة الاميركية جمعت الفلسطينيين والاسرائيليين وحثتهم على الالتقاء والسعي لانهاء الصراع المزمن والمضي نحو اتفاق للسلام، فان الامر لا ينطبق بالمقياس نفسه على الاكراد. هم لم يأتوا الى واشنطن كي يجلسوا الى طاولة واحدة مع خصومهم من الاتراك او الايرانيين او الحكومة العراقية. والوزيرة الاميركية لم تبذل جهداً كي تدفع الاطراف المتنازعة الى اللقاء والمصافحة وصولاً الى اجتراح حل سلمي للقضية الكردية في الشرق الاوسط. لا ترعى الادارة الاميركية، اذن، مصالحة كردية - تركية او كردية - عراقية...الخ، انها، ويا للمفارقة، ترعى مصالحة كردية - كردية. وعلى غرار المصافحة الشهيرة بين ياسر عرفات واسحق رابين، يمضي البارزاني والطالباني للمصافحة تحت الرعاية الأميركية كما لو انهما يمثلان دولتين مستقلتين ومنفصلتين. لا ضير في هذا. ما يهم في نهاية الامر هو الصلح والسلم واستتباب الامن. ويبدو مهماً للغاية تصالح الطرفين. اذا ادركنا ان نزاعهما في غضون شهور قليلة اوقع الآلاف من القتلى والجرحى وعمم الخراب والدمار في المنطقة الآمنة التي ترعاها لهما الولاياتالمتحدة. انها صورة مشوشة بعض الشيء. فبعد ان كان الاكراد يتضرعون الى ابسط موظف اميركي كي يستمع الى شكواهم ونقل الى الحكومة الأميركية رغبتهم الحارة في ان يحظوا بالالتفافة والرعاية، هي ذي الادارة الأميركية نفسها تبادر فتدعو الزعيمين الكرديين للالتقاء في واشنطن والعمل من اجل احراز اتفاقية للسلم والتفاهم تخلّص الاكراد من الاقتتال والتنازع والصراع العبثي على المال والسلطة. سيتطلب الامر وقتاً ليتم تجاوز ومن ثم نسيان الآثار المدمرة والدموية للسنين الماضية. وسيحتاج الامر الى ارتفاع الزعيمين الى مستوى المسؤولية الوطنية والقومية والادراك ان خدمة الملايين من الناس تحتاج الى تضحيات وتنازلات وتسامح وتحمل للآخر وان الاموال والسلطة قد تخدم فترة لكنها لن تخدم الى الابد. سيتطلب الامر ايضاً تفاهماً من جانب حزب العمال الكردستاني الذي نسي مهمته الاساسية في تركيا وأخذ على عاتقه امر التدخل في شؤون الناس في كردستان العراق و"خربطة" حياتهم، فبدلاً من الذهاب شمالاً نحو مدن تركيا الداخلية واشغال الجيش التركي هوذا يتراجع جنوباً نحو الاكواخ الفقيرة لاكراد العراق فارضاً عليهم ايديولوجية عفا عليها الزمن. سيتطلب الامر ايضاً وقبل كل شيء اقتناع الزعماء الاكراد ان ما يهم في نهاية الامر ليس الرحلات الديبلوماسية ولا التقاط الصور في البيت الابيض بل الانخراط العميق والحقيقي في مشاكل الناس ومشاغلهم وتكريس الجهود والاموال من اجل بناء كردستان وتنظيفها من انقاض الحروب والنزاعات والانفال وتوفير وسائل العيش والعمل والزرع والري والتعليم والصحة والمواصلات. فمايحتاجه الناس اكثر من مصافحات جميلة تتكرر في عواصم العالم. ينبغي ان يكون الخراب الذي شمل الأكراد في السنوات الكثيرة قد علّم الناس درساً: ان محك الاخلاص الحقيقي للزعماء لا يكمن في الكلام اللطيف عن الاخوة والتفاهم بل في العمل الصامت، الدؤوب، من اجل ازالة الشقاء. سيكون الزعماء الاكراد قد تعلموا الدرس البسيط ايضاً وهو انه طالما شرعوا في الالتصاق بالقضايا الفعلية للناس، فان قيمتهم تعلو وشأنهم يرتفع وعندئذ لن يكون بعيداً اليوم الذي تستقبلهم العواصم ليعقدوا بينهم وبين خصومهم اتفاقات السلام. فاذا ما اخفقوا في هذا الامر وعادوا الى نزاعاتهم التافهة فلن يتأخر الوقت في شروع العالم بنسيانهم وسيأتي من يذكرهم بأن السياسة شيء والاعمال الخيرية شيء آخر. * كاتب كردي عراقي مقيم في اوسلو